نُشر فى موقع مصر العربية
..............................................
..............................................
المعدية...شجن يبعث على الأمل
إسراء إمام
"غُربة وسفر" .. "فراق بين حبيين بسبب الأوضاع المالية"
وأقتبس هنا من جُملة فيلم لا تراجع ولا استسلام الشهيرة "المواضيع دى اتهرست فى مية ألف فيلم عربى قبل كدة"، وعلى الرغم من أنها الجملة الأولى التى ستطرأ على ذهن القارىء حينما أخبر فى سطورى القادمة أن د.محمد رفعت تناول معالجتها من جديد فى فيلمه المعدية، إلا أن هذا الرجل أثبت أن موضوعات كتلك يحق للمبدع_وللمبدع فقط_ أن يخوض فيها تارة أخرى، يمنحها مذاق الفترة الآنية بتقلباتها وأوجاعها، ويصبغ عليها نزعة إحساس متوارى لم يفطن له من استبقوه فى معالجتها، ويستولد منها تجارب حيوية حقيقية، محتفظا بالسياق السينمائى الواجب حضوره، فتستقيم الكافة دون إعوجاج .
السيناريو
ثمة العديد مما يمكن قوله لصالح هذا السيناريو على مستويات مختلفة، فهو استطاع أن يخلق حدوتة متوازنة بأكثر من شخصية وأسلوب سرد موفق، يضع المتفرج من الوهلة الأولى فى حالة من الترقب والشغف والرغبة فى الإستمرار.
تبدأ الأحداث بمجرد وصول حسين"أحمد صفوت"، والذى لم يظهر فى أول المشاهد من بداية الفيلم، على الرغم من الأحاديث التى تتمحور كلها حوله، الجميع يتهامس بشىء ما، ويتوجس برد فعل حسين حياله، إلى حين ما يكتشف المُشاهد، أنها علافة الحب بين صديقه فارس "هانى عادل" وأخته "أحلام" والتى على ما يبدو يعلم عنها الحى بأكمله، وتتناثر حولها الأقاويل السوء. إنها نقطة تأزم قوية ينطلق منها السيناريو، ويبنى لها جيدا، بحيث لم تصل المعلومة سهلة طيّعة، وإنما تم مزجها فى خط متوازى مع سرد عواقبها التى تبعث على القلق والتوتر، لينكشف على خلفياتها الكثير من الحقائق عن حياة حسين السابقة، وطبيعة علاقته الحالية مع زوجته نادية "مى سليم"، اشتباكا مع مصائر وأوجاع آخرين. هذه البداية التى تبعد تمام البعد عن خلق إنطباع تقليدى قد يتسرب إلى المتفرج، هى ذاتها الطريقة التى انتهجها رفعت فى السرد طوال الفيلم، بحيث لم يمهلنا فرصة للتخمين، أو لتوقع خط سير الدراما، على الرغم من بدائية موضوعها.
قدم رفعت أساسا متينا للعلاقات بين الشخصيات على أكثر من مستوى، فثمة علاقات ثنائية ثرية مثل علاقة أحلام وفارس، وعلاقة نادية وحسين، وثمة حِنكة فى توظيف الوقع الدرامى الذى قد ينتج عن هذه الثنائيات تفصيلا وهو ينعكس على علاقة الشخصيات كلها كجُملة، خالقا فى النهاية شبكة قوية منمقة على قدر ملحوظ من العمق .
فمثلا علاقة أحلام وفارس، لم تكن مجرد علاقة اسمية لحبيبن، يتم الإتكاء عليها وصولا إلى المستوى التالى من الحدث، وإنما تبدت أهميتها وقدرتها على التأثير بمعزل عن الظروف المحاوطة، وخصوصا فى اليوم الأخيرالذى قضياه معا قبل سفر فارس المزعوم، ملخصا فى تكثيف لحظات حميمية قوية تجمع بينهما، يشد من أزرها الديالوج الأخير الذى ترجو فيه أحلام من فارس ألا يمتثل لطلب أخيها ويسافر كشرط وحيد لزواجهما، ملتمسة وجوده جانبها خوفا مما يحدثه السفر من بُعد وانكسار لن يلتئم ابدا، فتقول فى جملة نفاذة الأثر، توجز فى ايفاء قوة العلاقة التى تربطهما "انت كل دنيتى يا فارس، انا بعدك ماليش حد، أنا اكتشفت النهاردة انى حتة من حياة حسين ونادية بس" . تماما كما وُفق السيناريو فى التعبير من الوهلة الأولى عن الغربة التى تجمع بين نادية وحسين، فمن أول لحظات وصول حسين، يتبين اللقاء الفاتر الذى يجمعه بزوجته، والذى يدوم بعدها لعدة مشاهد، متذرعا عنه بضيقه بعد معرفة علاقه أخته بفارس، لحين اكتشافنا أن ليس ثمة ما يدفعه لذلك سوى حيادية مشاعره صوب زوجته، وتورطه مع حكاية حبه القديمة مع جارته ايمان "انجى المقدم"، تلك الجارة التى تسكن لسوء الحظ فى المنزل المجاور، وشباكها يقابل نافذته بوقاحة إقحام الماضى لنفسه فى قلب اللحظة الحالية. وهى العلاقة الثالثة التى حكى عنها السيناريو مراعيا ضرورة إلمام المتفرج بتفاصيلها وآلامها وأوجاعها، وطزاجة مشاعرها التى مازالت تئن وتزاول إلحاحها رغم مضى كل شىء . على نفس النهج صاغ السيناريو علاقة الأصدقاء الثلاثة منصور وحسين وفارس.
ثم تأتى الطريقة التى انعكست بها كل هذه العلاقات الثرية على بعضها البعض، فعلاقة احلام وفارس فى ألقها ووهجها بينت حجم الفتور الموجود فى علاقة نادية وحسين، والماضي بين ايمان وحسين أبرز مدى الألم الذى يحاوط حياة نادية، وعبر عن ايقاع حياتها الموجع ومعاناتها الداخلية على الرغم من أنها اقل الشخصيات حديثا وظهورا. مثلها مثل ايمان، المطلقة التى تحيا بمفردها والتى وقعت بين مخالب الماضى وفوضوية الحاضر.
من خلال كل هذا، سرب السيناريو حالة مُقبضة حيال الهجرة والبُعد، لم يتحدث عنها بذاتها كثيرا، وإنما ترك شخصياته تجسدها وتنبأ عنها بطريقة غير مباشرة، إنه طرحا جديدا يعلو فيه صوت التكوين الإنسانى، يتمثل فى تفاصيل موجعة، مثل هذا التعبير المثير للشجن على وجه ضحى ابنة حسين حينما كان يحاول التقرب منها والتودد إليها، وهى تشعر به غريب عنها، كذلك حالة الفوبيا التى تمكنت من إحساس أحلام تجاه السفر، والتى ارتسمت جلية على قسمات وجهها فى اللقطة التى طرح فيها حسين حل الهجرة، ومقارنتها الدائمة لحال فارس وحال أخيها وشكل حياتهم بعدما يحدث ما يريده حسين. فثّمة اوجاع كثيرة يعانى أصحابها من آلامها دون أن يعوا ماهيتها، والسفر بات حالة عامة عادية، لم يفطن الكثيرون لما يحدثه فى نفوسهم، ويخلّفه على حياتهم وعلى المحاوطين بهم، ولكن شخوص د. محمد رفعت كانت أكثر رهافة وحس جدير بأن يجسد هذه الحقيقة القاسية، التى تطرق لها وبيّنها بمعزل عن الخوض مرارا فى ندب الأوضاع الإجتماعية والسياسية بشكل سطحى ومباشر.
مناطق تعثر
حكاية منصور، هى أكثر خطوط الفيلم ضعف، نظرا لما تبدو عليه من تقليدية فى التناول، فهذه الصورة المعهودة عن زوج أخته العاطل الذى يضرب زوجته ويستلب أموالها عنوة، لم يكن لها معنى، وخاصة أن منصور ليس ملزما بإعانة أخته طالما ارتضت بهذا الزوج، كما أنه من الإبتذال تقديم نموذج هذه الزوجة التى ترضى بإهانة كتلك، بل وتقف أمام منصور حينما يريد الدفاع عنها بحجة ألا يخرب عليها. كل هذا خرج عن مجال الإقناع.
كذلك الإنطباع الغريب الذى صدّره السيناريو عن نادية فى المشاهد الأولى، والذى بدت تشبهه فقط فى مشهدا وحيدا بينها وبين أحلام قبل وصول حسين، بينما تجاهله السيناريو فيما بعد وكأنه لم يكن، فهذا النوع من القدرة على الإستفزاز الذى أنبأ عنه السناريو حيالها فى البداية، لا يمكن أن يتغير بين يوم وليلة، وينقلب إلى حالة سلمية ومؤازرة على الدوام كما تبدت بعد وصول حسين.
ليس ثمّة أى داعى للتطرق تفصيلا لطروف عمل أحلام، وخاصة ذلك المشهد الساذج الذى حاول فيه أحدهم هناك التحرش بها، سواء على مستوى تنفيذه دراميا أو بإستخدام المخرج فيه الصورة البطيئة، والتى تكرر اللجوء إليها وقتما اعترضت أخت منصور على دفاعه عنها وطردته من منزلها. فلم تعطى هذه الذلات الفيلم إلا إحساسا بدائيا لا يليق بمستوى تنفيذه بشكل عام.
الديكور
ديكورات الفيلم ملفتة، فمنزل فارس خير عنوان لحالته المالية وسوء أوضاعه، كما أنه تم العناية بتفصيلة جيدة تخصه، حيث نجد على أحد الجدران واحدة من تلك المنسوجات التى يعمل عليها فارس فى الورشة، وهكذا تبدى منزل حسين هو الآخر، فى صورة حيوية تلاءم الفارق المادى فيما بين الصديقين، مع مراعاة أنهما من نفس الثقافة، فنجد منزل الثانى أرقى على المستوى المادى ولكنه يختلط فى ذوقه ما بين الطابع الشعبى ( مثلا سجادة الصلاة الموضوعه فى صالة الإستقبال)، والطابع الحديث (كلا من أباجورتى الإضاءة الموضوعة بجانب فراشه هو ونادية).
الأداء
دُرة أجادت التعبير عن مخاوف أحلام، براءتها، وحالميتها. عينيها كانت غاية فى القوة فى أكثر من مشهد، وقد تطور أداءها بشكل ملحوظ فى فيلم المعدية.
أحمد صفوت بدا فى إطلالة جديدة، ألّمت بالتخبط الذى يشعر به حسين، وانتقلت بنا معه من لحظات جامدة باردة إلى أخرى مرتبكة إلى نظيراتها العاشقة.
مى سليم بذلت جهدا واضحا فى إدراك شخصية نادية، وقد تبدت فى بعض المشاهد جيدة فى أدائها، ولكنها غالت فى أوقات أخرى، وظهرت متصنعة شيئا ما، ملتزمة بالنظر دوما إلى جهة واحدة، وكأنها دوما تُخاطب اللاشىء.
إنجى المقدم، فى حضورها القليل أجادت ووفت.
آخر كلمتين:
_ المعدية تجربة تستحق الوقوف والتأمل والإشادة رغم بعض مناطق التعثر. فهو يُقدم حالة مختلفة من الشجن لا تبتذل العواطف وإنما تخلق من قلبها أملا جديدا.
تعليقات
إرسال تعليق