نُشر فى موقع الوادى
.......................................
.......................................
«أحمد زكي» للتشخيص رب يحميه..الوزير الذى لا ينام وأداء الصمت المدوّى
Monday, يناير 13, 2014 - 13:32
يقول جوزيف .م .بوجز فى كتابه فن الفرجة على الأفلام " من أنماط الممثلين : (المشخصون) .. وهم ممثلين لديهم قدرة طبيعية على التخلى تماما عن شخصيتهم الحقيقة وراء ظهورهم . ومثل هؤلاء الممثلين يستطيعون أن يغوصوا بأنفسهم تماما فى دور ما، مبدلين خصائصهم الذاتية والطبيعية والصوتية بدرجة يبدون عندها أنهم صاروا الشخصية الممثلة".
عندما تقرأ هذه السطور السابقة، من المتوقع جدا أن يثُب إلى مخيلتك "أحمد زكى" ولا تسع غيره فضفاضية الصورة التى تفترش ذهنك، وكأنه جُل الممثلين الذى يصفهم بروجز فى كلماته، فبحق هو زعيم هذه المدرسة الأدائية بجدارة، وقد سردت منى زكى يوما بعد عرض فيلم أيام السادات عن مدى الإلتباس الذى ضيق الخناق على شخصيته الحقيقة فى مقابل تمُكن السادات من جسده ونفسه، فبدا فيما بين الكواليس وفى أوقات الراحة باقيا على روح الشخصية بين ضلوعه، قابضا عليها بين كفيه، تقبع على الرغم منه فى نظراته وايماءاته وشبقه صوب الحياة بأكملها، فلم يكن بغير وعى ينفصل عنها بعد انتهاء المشهد، يُدفن نفسه فيها حد الفناء، لدرجة أبدت فيها الممثلة الشابة اعترافها بأنها لوهلة لم تكن تُميز مع من تتعامل.
وبغض النظر عن تفنيد ما يوصم هذه المعايشة من سمات ايجابية وسلبية، فإنها تستحق التوقف والتمعن بمتهل أمام حجم المجهود النفسى والعصبى الذى يستحوذ على جسد هذا المُبدع ويُرهقه، وتقدير هول الضريبة التى يدفعها من دمه لموهبة ألجمته من شعر رأسه لإخمص قدميه.
ولكنى سأختص فى حديثى هنا، أداء هذا العملاق فى فيلم، أعِدّه استثنائى على المستويين الدرامى والتمثيلى، فـ سيناريو فيلم "معالى الوزير" حالة مستغرقة من الشمول المُعقد جدا ما بين الطرح السياسى الإنسانى التهكمى الكوميدى، لا تفتأ أن تنبهر بجهنمية فكرته وأناقة واتساق تنفيذها كلما عادوت مشاهدته، ففيه توصل وحيد حامد إلى غاية التأزم الدرامى فى حُلة مرهفة البساطة، عبرت فى سلالة عن حزمة من احاسيس الأرق المجتمعى فى حدوتة رشيقة تدعو إلى البسمة وأحيانا إلى الرثاء . وعلى قدر هذه الطاقة المشاعرية المُغدقة بالتنوع التى يحملها الفيلم، جاءت إطلالة أحمد زكى مُضمنة بنفس الحيوية التى تضج تناقضا وحقيقة وخصوصية.
شخصية رأفت رستم
ذروة مشكلة رأفت رستم تقف عند طبيعته الإنسانية المتنافرة، ما بين تطرف بالغ فى القدرة على الأذى ونظيره التام فى يقظة الضمير، فهو الوزير الذى يزاول الفساد بتوسع ومن دون أية نية فى التراجع، بينما يملك نفسا نبيهة فى اختزال احساسه تفصيلا بكل ما يضيفه إلى رصيده المتسلق الشرس، والذى لا يأبه بدهس ما يعوّق قفزاته، فهو أقوى رقيب على ذاته التى لا ترحمه، وبالتالى تضعه مع أعنف أذمة نفسية قد يتعرض لها مخلوق، وخاصة مع التعنت فى الاستمرار، وفداحة إلحاح كل شطر من شقى المعادلة على حدى. وأحد أخف النتائج وطأة هى كوابيس النوم المروعة التى بات يتعرض لها بإنتظام، بينما المتوَقع دمار نفسى وعصبى شامل وعاصف قادم بالتدريج لا محالة، تبدت ملامحه الأولية مع آخر مشاهد الفيلم.
إنها الشخصية التى تحمل فى خصوصية تركيبتها مربط فرس قوة الفيلم بأكمله، وهى تنافى الطبيعة الأغلب التى يتمتع بها البشر، فعادة يوجد رابط شرطى بين استفحال صدى أفعال الشر فى نفس الإنسان وبين مدى جرأته فى الكذب على نفسه والتبرير أمامها قبل الآخرين، وإنما فى حالة رأفت يحدث العكس. فهو يمتطى طريق طويل من الممارسات التى تستهجنها نفسه بثبات وفولاذية يأتى على قدرها عذابه. شخصية كهذه بلغت من الثراء أعتاه، الصدق، القدرة على مواجهة النفس، وشىء من اتقاد العاطفة الذى لا يخبو، مع النزعة المتأصلة بداخله فى عادية الإقدام على أذية الآخرين. والتى قطعا لم يكتسبها من أحدهم كما يتبدى من حديثه إلى عطية عن واقعته مع أحد المسئولين الذى أجبره على التحالف معهم. فما كان من هذا الشخص سوى أنه ألمع هذه السمة فى نفس رأفت، وأعاد تقديمها جلية أمام ناظريه. فهى الشخصية التى تنغمس فى واقع مزرى من قلة الإنسجام. الذى لابد وأن يُترجمه بصريا لاعب الدور بمنتهى النعومة.
زكى وزيرا لا ينام
شخصية كهذه عندما تتُرجم مرئيا لابد وأن يلعبها أحمد زكى، فهو من يسعه هضم تقلباتها المزاجية المتوترة خلال ثوانى، والإحساس المتلون المتناقض الذى تضج به عينيها فى آن واحد أو ما بين خطفة وأخرى. فتراه يُجسد بحرفية اللحظات التى يبدو عليه فيها الصلادة والامبالاة وبعدها ببرهة تتقافز ملامح الإنهيار على وجهه فى مشاهد مثل التى كان يستوجبه فيها الضابط بأول الفيلم، فتراه عندما ينعته الضابط بالوزير السابق يُدركه بالتصحيح فى عتىّ من لا يأبه بشىء "لسه مابقتش سابق" وحينما يواجهه الضابط بنبأ اقالته، تشهد عليه فى ارتباك لا يتوائم أبدا مع حالة التصنع التى كان يجيد رسمها منذ قليل، وهو التضاد الحاد الذى يستمر فى أداءه طوال الفيلم كتلك الحالة التى تنتابه حينما يتحدث مع الرئيس على التليفون بنبرة قططية ملفتة وبعدها ينهر من منطقة اخرى تماما فى صوته سائقه قائلا" إسرع شوية يابنى".
على نفس الشاكلة، أتت النظرات النمِرة المُقبضة فى مشهد كذلك الذى طلب فيه من عطية أن ينزل إلى المياه بملابسه عندما اقترح عليه الطب النفسى لأرقه مع الكوابيس، وتحديدا فى الكادر الذى يتفوه به بألق من يثق فيما يريد " تبقى الكوابيس ... الكوابيس مش هتقتلنى، لكن أفضل زى مانا كامل مكمل، السلطة ماتعرفش الطب النفسى يا عطية"، وفى الوقت ذاته تلك الألفة التى تغلف اعتماده على عطية، وجنوحه إليه ليس كمساعد، بينما كشريك يصدقه إحساس الود، فهى مشكلة رأفت الأزلية الصدق فيما يفعل وما يشعر، فترى نفس العينين المتقدتين شررا، صاخبة بالونس فى أوقات بوحها لهذا الوليف .
بينما ترى ذات العينين يحملان القدر نفسه من الوجل والجرأة والوداعة والقوة والإنسكار والتبلد كلا كلا بذات الوقت، فى المشهد الذى يسأل فيه عطية " عمرك شفت واحد يكتب تقرير فى مراته؟ عمرك شوفت سفالة أكتر من كدة؟"، بالطبع هذا النوع من المصالحة مع النفس فى الإعتراف بأقبح صورها يتطلب مثل هذا الأداء الخبير فى استيعاب هذا الكم من الأحاسيس المتضاربة وفوقهم الألم الذى يحتبس رأفت معظمه ويبوح بربعه فقط فى أوقات أخرى، بينما يتملص منه هنا بهذه الكياسة والمرونة فى الإعتراف التى فى مظهرها تبدو لينة غير مكلفة ولكنها فى الحقيقة تمثل فى حد ذاتها نصف معاناته.
وعلى قدر القوة التى تتسع بها العينين أحيانا فتُخيفك، تبقى على القدر عينه من الرحابة بينما يملأها الخوف، فتراها مذعورة فى وشاية خافتة بالمشهد التى كان يوصى فيه عطية أن يتخذ حذره قبيل ذهابه للطبيب النفسى، ومذعورة فى حيادية صمّاء حينما يأتيها نبأ موت عطية، ومذعورة فى أسى ووحشة وعتبات انهيار نفسى وشيك وقت كان ينعى عطية ويصب جم غضبه على قاتله.
كان زكى على مقاس الدور تماما، لا يفقه تضاريسه الملتوية إلاه، ولن يتمم خطوات تعرجاته للنهاية سواه، فهى شخصية تختلف عن أية دور آخر قام به، تتلاقى تماما مع قدراته أكثر من نظيراتها، وتبعث بالضوء على موهبته فى اجتياز الحواف بجدارة، فهو تماهى مع شخصية تقف على الحافة من كل شىء، من الحب ، الألفة، الشر، الإنسانية، الثقة، الخوف ...ولا تُمرغ ذاتها إلا فى غاية الصدق من كل كم تحظى به من كل هذه الأحاسيس. فبدون مغالاة نعهدها من بعض الممثلين فى أدوار كتلك سواء بخصوص ملامح الوجه أو العينين أو طريقة النطق وخلافه، لعب أحمد زكى رأفت رستم فى صمت مدوّى .
آخر كلمتين:
_ حتى المسحة الكوميدية المُصقلة التى ميزت الدور استطاع أن يُجسدها فى عفوية، وبدم متجددة قادرة أن تنفض عن كاهلها كل الأحاسيس التى تُثقل الشخصية. وفى تناغم يتناسب مع توليفتها العجائبية الغريبة.
تعليقات
إرسال تعليق