نُشر فى موقع عين على السينما
...........................................................

...........................................................
"ذئب وول ستريت".. سكورسيزى الذى لا يشيب أبدا
السبت 11 يناير 2014 15:03:00
إسراء إمام
"مارتن سكورسيزى" المخرج الذى لا يشيب أبدا، كلما تكومت السنوات وشكلت عمرا جديدا، يخرج عليك مزهوا بشباب آخر يملكه، طزاجة فى مواكبة الزمن والتفوق عليه، وجرأة تناول ما يشاءه من موضوعات، فى طرح عصرى يليق بمخيلة مخرج يطلق لنفسه العنان، لا يعمد فى تكبيلها باسم التحفظ والحفاظ على إرثه بدرجة واحدة من الرصانة، وبنكهة التلقى ذاتها.
سكورسيزى هو المثال الأقرب للمخرج الذى يتصالح مع حاله، والذى يتقبل بكل مرونة تقلباته المزاجية، ولا يدعها تنال منه وتُربكه، بينما يعبر عنها وينفضها عن كاهله أولا بأول، فيبقى على حالته الإبداعية منتعشة دوما، قد تختلف معه أحيانا وقد تقبله أخرى ولكنك أبدا لن تُنفى تلك الحيوية التى تغمر أفلامه وخاصة مع مرور الوقت.
يأتى فى عام 2013 وتراه فى أوج ثورته على ذاته، مُرتضيا أن يدعو مشاهديه إلى حالة ملفتة من الصخب السينمائى، الماكن فى استخدامه معالجة عالية النبرة ومتأنية على النص فى آن، والجانح فى غير حياء إلى كوميديا الإفيه اللفظى فى كثير من الأحيان، والذى يخوض بقلب بارد في تفاصيل مستعصية على الفهم فيما يخص عالم البورصة. "ذئب وول ستريت" the wolf of wall streetهو التدوينة السينمائية التى أختتم بها سكورسيزى عام 2013، لتفتح مجالا لإثارة الجدل، فقد يختلف علي جودته البعض مقارنة بتاريخ هذا العملاق ولكنه يظل مشدوها أمام هذه الأطروحة الأخاذة التى تستحق الإشادة.
الشخصيات
"جوردن بلفورت" شخصية طموحة جامحة، من الواضح أنها من خلقت عالمها، وليس عالمها هو من عمد إلى تكوينها، ولهذا يُؤخذ علي طلتها الأولى فى الفيلم تلك الإنطباعات التى تندرج تحت فئة كل ماهو على الجهة الأخرى من حقيقة الشخصية التى يطويها جوردن تحت جناحيه، قسمات جنحت إلى السلمية، وردات فعل غير واثقة على الإطلاق. وإن كان كل ذلك تحت نية توضيح الطبيعة النقية التى كان يملكها فى البداية قبل تعمقه بالعمل فى سمسرة البورصة، فالنقاء شىء وسمات الشخص الأساسية شىء آخر، وفى مشاهد تالية لإنتهاء عمله مع أول رئيس له "مارك هانا" والذى خلّف على شخصيته الكثير، تظهر طبيعة جوردن التى يتمتع بها وفقا لفطرته قبل كل شىء، عندما يذهب لمكتب السمسرة الصغير فى لونج آيلند، فتراه بتهكم شخصا متنمرا حذِقا يسخر من المكتب وعمله فهو لا يرضى بالقليل، وبعدها وفى أول مكالمة له مع العملاء تفوح رائحة موهبة يملكها فى الاقناع. إنها حقيقة شخصيته التى لم يتوافق أبدا معها الشكل الذى بدا عليه فى أول الفيلم. فهذه القدرة على تكشير الأنياب للظروف حتما لم يكتسبها بين يوم وليلة من مارك هانا رئيسه السابق الذى يتناوب على المخدر وينتهج ايمانا قويا بإستلاب أموال العميل، وإنما هى مخزون يملكه بلفورت داخله من الأساس، فلماذا كانت هذه الطلة الأرنبية فى أول الفيلم، والتى استدعت كثير من الوقت لكى يتلاءم المشاهد مع تلك الشخصية الأخرى التى بدا عليها جوردون فيما بعد .
تنتظم شخصية جوردن وتتماهى مع باقى الشخصيات المحيطة بها، والتى ميزها السيناريو هى الأخرى جيدا، فخدمت الصعيدين الدرامى والكوميدى، ويُحسب للسيناريو أنه فى بداية التعريف بالشخصيات، تم التأكيد على سمات براد، الشخص الأذكى والأقوى، وفرد مساحة مشهد كامل لتأكيد روحه الجامدة واسلوبه الفظ، إلى جانب تفصيلة تذمره فى المطعم لأن النادلة لم تحضر زجاجة الكاتشب فى موعدها، كل هذا كان بمثابة تحضير واع للواقعة التى جمعت بين براد ودونى فى النصف الثانى من الفيلم، ليبدو العراك فيما بينهما مقبولا ومنطقيا.
فى مكتب البورصة بالذات، كانت الشخصيات لها وميضها، حتى أقلها فى الظهور كانت تحمل ما يميز طلتها، مثل السكرتيرة ذات الصوت الجهورى، و"جين" التى تحدث عنها جوردن وسرد عن قصة بداية التحاقها بالعمل فى المكتب، وقد اختصتها الكاميرا بلقطة فى منزل جوردن قبل هذا الحديث برمته، تمهيدا للتعريف بها فيما بعد، كما بينتها لقطة أخرى وهى تصرخ فى خلفية الصورة، عندما هاجم رجال المباحث المكتب وبدأ فى التقبض على العاملين هناك، ليبزخ صوتها " تبا، هذا القميص من شانيل".
بصمة سكورسيزى
جماليات السيناريو هنا، أظهرتها عدسة مخرج غير اعتيادى، يطوّع التفاصيل ليتكأ عليها فى تثبيت أقدام الفيلم بأكمله، ليبدو وفى ازدواجية فريدة قائما على متن واضح متزن، بينما تٌحلق روحه بحرية ما بين خفة فى التناول، يطغو عليها صيغة من اللامألوف فى التعامل مع السرد، والانغماس فى تفكيك أدق التفاصيل، لدرجة يشعر فيها المشاهد وكأن سكورسيزى ابتلع السيناريو أو حكاية "جوردون بلفورت" فى مخيلته، ومن ثم أطلق سراحها مصحوبة بالهياجات التى تقبع هناك، وبدءا من هذه النقطة يبدأ الحديث عن ما يميز هذا الفيلم، بينما تقف بنية السيناريو ذاته عند حد العادية، التى أمعنت فى ترتيب الحدث، والعناية باتساق الشخصيات، ووقفت عند هذا الحد الذى كان سيذهب بها إلى اثنان من أشكال الصياغة المعتادة، إما الدراما المكثفة أو الكوميديا الخالصة، وهنا يتضح دور لمسات سكورسيزى التى قدمت مزيج ما يسمى بالخيار الثالث. والذى توصل إليه ببساطة من أراد أن يشعر جديا بكل دقائق هذا العالم الغرائبى الذى كان يحياه جوردون وحلفاؤه، وبالتالى تقبله كما هو وعبر عنه بما يليق بمتاهاته وتعقيداته التى لا يأخدها أهله أنفسهم على محمل الجد، وهكذا كانت روح الفيلم بالضبط، تشابه موقفهم وتجارى الطريقة التى يمتثلون بها لأقدارهم غير عابئين بأى مأزق يلوح على مبعدة، فانبثقت دراما لها قدمان موغلتان على نصب تهكمى رائق يدعو للبهجة ويجافى المنطق. هؤلاء القوم لا يفيقون أبدا، تُرى كيف يكون مظهر أيامهم ؟ الطريقة التى يتعاملون بها مع أنفسهم؟ ومع ظروفهم؟
على غرار الأسئلة السابقة، أتت مشاهد نصف واعية، تبدو جدية على الرغم من مضمونها الهرائى، مثل المشهد الذى يتحدثون فيه بدأب عن الرهان الذى ينتوون القيام به بواسطة القاء الأقزام نحو قرص التصويب، والمشهد الذى يليه مباشرة عندما يأتى والد جوردون ليحاسبهم عن بعض الزيادات المالية التى قاموا بصرفها، وهما مشهدان غاية فى الدلالة إذا ما وضعتهما فى اطار كامل مع الفيلم بأكمله، ُيسربان مدى تفاعل جوردون مع أصدقائه، فعلى الرغم من مرور حفنة قيمة من الزمن تظل الحميمية مخيمة على تعاملهم واجتماعهم، ولعل هذا ما أودى بجوردون لأن يُكمل مسيرته_ لولا تدخل المباحث_ لآخر لحظة بكيان متماسك يتوسع بوما بعد آخر، وهى المشاهد أيضا التى تضعك فى جزء ما من أفكارهم ودنياهم الهلامية.
هذه الطائرية فى التعامل مع النص ألحت على المعالجة فى النصف الأول من الفيلم، الذى اعتراه مزيد من الاشراق ونوع من الهزيان، تلمسه فى كثير من المواضع الأخرى، مثل الطريقة التى صُورت بها مشاهد شرح "الوايلود" وهو نوع من المخدرات التى يتعاطونها، حتى فى المشاهد التى اصطبغت ببعض الرصانة اقتطعتها بعض اللقطات التى تكسر هذا السياق متعمدة، مثل ذلك المشهد الذى خطب فيه جوردون ليحمس عامليه بالمكتب فى سبيل بيع أسهم "ستيف مادن" للأحذية، والذى اقتحمت صمته لقطة قذف الساعة بالهواء وتهافت الآخرين عليها، هذا إضافة لمشاهد وقوع جوردون صريع تحت تأثير مخدر "الليمون" فى حالة شلل دماغى وصلت به إلى الزحف وهى المشاهد الأكثر بقاءا فى ذهنك والتى صمم سكورسيزى أن يصورها بهذا الجنون الجميل، فكانت مدعاة لأحاسيس مثقلة بالكوميديا ونوع غريب من الرهبة والشفقة. والأجمل أنه مع بدء جوردون التزامه بمبدأ "ابق صاحيا" تتخافت هذه النزعة الغيبوبية، ويحل نوع من الإستقرار على الجزء الأخير من الفيلم، وتأتى أكثر المشاهد انقباض وعتمة وهو المشهد الذى يتشاجر فيه جوردون مع زوجته نايومى ويحاول اختطاف طفلته منها عنوة.
طالت هذه الدفعة الجهنمية ايقاع الفيلم برمته، فبدا لاهثا سريعا لا يحتمل ألا تعيره جل اهتمامك وتركيزك، يختزل تفاصيل هامة بشكل موازاى مع تقدم الحدث، غير أن طريقة سرد الراوى جاءت مميزة، يتحدث فيها جوردون إلى الكاميرا، ويخاطب المُشاهد وينأى به عن التفاصيل التى قد لاتكون مفهومة فى الطريقة التى يحتالون بها على سوق المال، إضافة للحيوية التى صاحبت القطع الموازى للمشاهد التى كان جوردون يُعّلم فيها موظفيه التحايل على الأثرياء، وحركة الكاميرا فى المشهد الذى ملأهم فيه بالحماس تجاه بيع أسهم "ستيف مادن" بطريقة متسقة جدا مع توظيف الأغانى، فجوردون كان بمثابة مخدرهم الثانى.
الحالة فى المكتب بأكملها، هضمها سكورسيزى جيدا فى كتاب جوردن، وأجاد تصويرها فى احتفالات الصخب، وعواصف المجون التى كانت تضرب الموظفين والمتبدية فى مظهرهم على مكاتبهم، فمن فرط غرابتهم أصبحوا يلفظون كل غريب عنهم يتصرف بفطرته الطبيعية، كذلك الولد الذى طرده دونى عندما رآه يعمل على تلميع الحوض الزجاجى للسمكة التى يملكها.
الكوميديا فى الفيلم
تم استحضار الكوميديا فى الفيلم، على ثلاثة مستويات، مستوى التعامل اللفظى، حيث استُغلت أدق تفاصيل فى الحوار ليكون للإفيه فيما بينها مكان، وهو اقل مستوى نمت منه الكوميديا، وآخر تجلى فى التعليقات التى تأتى من داخل الشخص على ما يحدث فى مشاهد جوردون والعمة ايما، وفى المشهد بين جوردون ومسؤول البنك الفرنسى، بينما كان أقواهم هو المرتبط بشكل وثيق مع الدراما كمشهد الخادم والذى جاء ليوضح هوجائية هؤلاء القوم فى التعامل مع مشاكلهم، مشهد العاصفة وقت الإبحار إلى ايطاليا، مشهدى الخلاف بين براد ودونى. ومن جديد يأتى ذكر المشاهد التى زحف فيها جوردون إلى سيارته وشجاره مع دونى وهم تحت تأثير المخدر، فهى ليست مشاهد جديرة بالاشادة لكونها تحمل قدر كبير من الفنية وإنما هى فى رأيى مؤشر عام يدل على المزاجية المتمردة للفيلم بأكمله.
آخر كلمتين
* حضرت بعض التفاصيل المهمة التى اتخمت الفيلم ايجابيا بشحنة مشاعرية طفيفة، كإختزال جوردن للإيقاع الذى كان يدندنه رئيسه الأول والإستعانة به وقتما قرر أن يخرق اتفاقه مع هيئة الرقابة على البورصة، ليردده فى جموح ومن وراءه موظفوه فى حالة من الايمان بـ اللايمان بشىء إلا رغبتهم. مثلما أتت تفصيلة "بع لى هذا القلم" كعنوان واف ومعبر عن قدرة جوردن فى الاقناع. وأخيرا تلك اللقطات التى ترتقب نظرة ضابط المباحث بينما كان عائد إلى منزله بالقطار، وهو يتملى من حوله فى نوع من الحسرة ويفكر بعين زائغة فى حاله إذا كان قد اكمل عمله فى سمسرة البورصة، فى توكيد لما قاله لـجوردون فى المشهد الذى جمعهما فهو حقيقة لم يكن يكذب، وعندما تطل عليك تلك اللقطات تشعر لوهلة أن صيده لسماسرة البورصة قد يكون نوعا من أنوع الإنتقام المقصود .
* اختيار "ماثيو ماكونهى" فى دور "مارك هانا" الرئيس الأول لجوردون، و"كيلى تشاندلر " فى دور ضابط المباحث .. يُشعرك أنك بحق تشاهد فيلما لإسكورسيزى .
تعليقات
إرسال تعليق