_نُشر في مجلة ميريت الثقافية_
السينما فن متعدد الألسنة، قد ينطق صورة، وقد يتحدث بالقصة والشخصية والكلمة، وقد يمزج كافة الأدوات السابقة لصالحه بدِقة وعناية. بينما، قليلة هي الأفلام التي تُجيد توظيف الحوار، وتغالي في اتكائها عليه دون كافة تلك العناصر، أما الأفلام التي تخلق منهجًا مُبتكرًا في استخدام الحوار، فهي نادرة لدرجة قد تبلغ الاستتثناء.
لذا، ومنذ مشاهدتي الأولى لفيلم indignation 2016، وأنا أستعيد منه دومًا مشهدًا بعينه، ذلك المشهد استطاع وبجدارة تحقيق تلك المعادلة الاستثنائية الحوارية داخل عمل سينمائي، فعلها بشكل غير مسبوق، وبجرأة لا تخفى على أحد.
أربعة دقائق من الحوار الذكي، المُمَنهَج بين شخصيتين، إحداهما محورية (شخصية البطل)، والأخرى هامشية عابرة. حوار لا يُخَدِّم على السيناريو والفيلم عموما وكفى، بل يمتد أثره ليمسَّك شخصيًّا، ويخلق فيك نوعًا من اليقين بأنه سيلمس آخرين كُثُر يشاهدونه. فكم مرة تحدثت مع أحدهم، ووجدته قد حصرك في خانة دفاع دائمة، مُأوِّلًا مُفرداتك، مشاعرك، وأفكارك، مُنهالًا عليها حُكمًا وتصنيفًا، وفي الوقت ذاته مُدعيًا باستماتة كونه رحب الصدر، واسع الأفق، رصين، ناضج، هادئ، يليق بالمناقشات الحرة البناءة.
حينما ستشاهد هذا المشهد، ستتذكر كيف تنمر عليك أحدهم بطريقة مماثلة، وكيف قد تكون في مرة من المرات أنت ذاتك فعلتها دون أن تدري، وهذا بالضبط ما أبرزه السيناريو من خلال هذا التناول الحواري الفريد من نوعه، حيث لا صورة ولا رمزية ولا أي أداة أخرى من أدوات السينما، قد تقوم بمثل هذه المهمة التي تضعنا في مواجهة واقعية مع نواقص مثيلة كامنة في تواصلنا المنطوق مع بعضنا البعض كبشر.
وصف المشهد
"ماركوس" شاب في مقتبل العمر، ينتقل لتوه إلى جامعة مرموقة في أوهايو، يتابع دروسه فيها بالقدر الذي يلائمه من العزلة والخصوصية، ولكن هذا لا يعجب عميد جامعته، والذي يستدعيه إلى مكتبه لمجرد علمه بأن "ماركوس" طلب النقل إلى غرفة منفردة، حتى وإن كانت أقل وجاهة من غرفته التي شاركها مع زميل له لم يتفق معه في إدارة أوقاتهما.
يبدأ العميد الحوار بالثناء على درجات "ماركوس"، ثم يسأله عن واقعة انتقاله من السكن، فيجيبه "ماركوس" أنه فعل ذلك لأن رفيقه كان يستخدم الفونوغراف يوميًّا مما أثر على تركيزه في تحصيل الدروس، فسأله العميد: "لم يكن ثمة طريقة أخرى لحل المسألة سوى مغادرة الغرفة؟"، فأفاده "ماركوس" بأنه سبق وتحدث مع رفيقه لكنهما لم يتوصَّلا إلى اتفاق، ولهذا قرر الانتقال.
هنا تبدأ أول مصارحة يدلي بها العميد بما يدور في خلده من أحكام مُسبقة عن "ماركوس"، قد انتهى منها بالفعل قبل مقابلة "ماركوس" وبمجرد اطلاعه على واقعة انتقال السكن، مُجسِدًا إياها في صيغة سؤال "هل سبق وتوصلت إلى حل وسطيٍّ بينك وبين أحد يجمعك معه بعض المشكلات؟"، إنها إشارة ضمنية لاعتقاد العميد أن "ماركوس" مجرد شخص ضعيف لا يقوى على مواجهة المصاعب. ينفي "ماركوس" متجاوزًا مقصد العميد عن غير دراية، ومن دون أي تبييت نية.
يبدأ بعدها العميد سؤال "ماركوس" حول معلوماته التي دونها بيده في ملفه الجامعي، فيقول "والدك جزار على الشريعة اليهودية؟"، فيجيب "ماركوس" مُستغرِبًا، "والدي جزار، لا أذكر أنني قد دونت مهنته كجزار على الشريعة اليهودية"، فيبادره العميد "ولكن والدك يهودي، وأعتقد أنك كنت غير دقيق في وصفه كجزار فقط، ولا أعي لماذا فعلت ذلك"، هذا يعد ثاني إيحاء في حديث العميد، ولكن هذه المرة ينتبه إليه "ماركوس" ويجيب: "لا لم أكن غير دقيق، وإن كنت تقصد أنني أحاول إخفاء ديانتي اليهودية فأنت غير محق". يطمئِن العميد ولكنه لم يتخلص من قلقه الخفي تمامًا، فيسأل "ماركوس" عن السبب الذي دفعه لعدم كتابة ديانته في خانة الديانة داخل الاستمارة، فيجيب "ماركوس" في شجاعة: "لم أكتبها لأن لا دين لدي يا سيدي، أنا لا أفضل أي دين على آخر، ولم أتملص من كتابة اليهودية لأنني أحاول إخفائها".
حينها يبدأ فصل جديد تمامًا من المبارزات الكلامية، والتي يبدأ "ماركوس" هو الآخر في اللجوء إليها تحت بند الذكاء، تاركًا بنود الفجاجة الأخرى من التفذلك، الهجوم، العنصرية، وغيرها إلى العميد.
يسأل العميد "ماركوس" عما يفعله لكي يستمد طاقة روحانية تعينه وقت مِحَنِه ومواقفه المتأزمة، ويظل يَلِح حتى يبلغ به التطرق للحديث عن قيمة الصلاة، فيرد "ماركوس": "أنا لا أؤمن بالصلاة"، فيبادره العميد "هذا على الرغم من أن الملايين يؤمنون بها، ويؤدونها"، فيبادره "ماركوس" بإجابة تُنهي مربعات الـX O لصالحه "الملايين يا سيدي كانوا يعتقدون قبلًا أن الأرض مسطحة".
لم يتوانَ العميد بعدها عن اتهام "ماركوس" بأنه إذًا هرب إلى غرفة بمفرده بسبب معتقداته غير الدينيه، وبأنه حتمًا يفتقر إلى التسامح، فيرد "ماركوس" بذكاء للمرة الثانية: "هل لهذا التسامح الذى تتحدث عنه، أن يشملني أنا أيضًا، فما الجريمة التي ارتكبتها لمجرد أنني انتقلت من غرفة مشتركة، إلى غرفة خاصة بي؟". هنا ستظهر صفة مقيتة أخرى في طريقة إدارة العميد للحوار، فنراه يلجأ لاستفزاز "ماركوس" بشكل خبيث كالمعتاد، فيقول: "من قال إنها جريمة، أرجو أن تدخر قدراتك التمثيلية وتعمل على تطويرها لمواقف أخرى"، ثم يُغير دفة الحديث، ويسأله عن علاقته بأهله، بينما كان يراجع معه معلوماته من الاستمارة، وهو يضيف جملة مُنغصة مُعتادة "هذا إن اعتبرت أن المُدوَّن هنا دقيق"، يثور "ماركوس" بشدة للمرة الأولى لأنه بات واعيًا لمغزى جُملة العميد: "الكلام المُدَوَّن عندك دقيق ياسيدي، أما عن وصفي لوالدي باعبتاره جزارًا فقط، والذي ترمي إليه للمرة الثانية، فوالدي نفسه يستخدمه حينما يعرف الناس مهنته"، يقطع العميد ثورة "ماركوس" وكأنه الشخص الذي يتفادى النزعة العصبية في الحوار، ويستطرد في سؤاله حول علاقته بوالده. يصمت "ماركوس" بشكل ملحوظ لبضع ثوانٍ، يحاول فيها تهدئة نفسه، ثم يخبر العميد أن علاقته بوالده كانت طوال سنوات طويلة في أفضل حال، ولكنها تضررت في الآونة الأخيرة ببعض التوتر الناجم عن قلق والده بشأن استقلاليته، مُبرِّرًا هذا القلق بأن شبابًا كُثرًا من سن "ماركوس" تطوعوا في الحرب ووافتهم المنية، وهذا ما يخشاه والده، يتطفل العميد قائلًا: "ألا تظن أنه يخشى من حادثة انتقالك لغرفة بمفردك؟"، يحسم "ماركوس" الأمر: "لم أخبره بشأن الموضوع، فأنا لا أفضِّل أن أشغله بمسائل لا تخص أحوال دراستي"، فيجيب العميد، بيقينه المعتاد، وهوايته في الاطلاع على النوايا: "انتقالك من غرفتك ليس أمرًا منفصلًا عن أحوالك الدراسية، وأظن أن والدك إن علم به سيتخذ حياله بعض الإجراءات". ثم يغير وجهة الكلام ثانية فجأة، وكأنه يهتم بكسب جولات وهمية لا توجد إلا في دماغه، سائلًا: "هل خرجت في موعد غرامي منذ قدومك إلى الجامعة؟"، يرد "ماركوس": "نعم خرجت مرة"، فيتهكم عليه العميد، باعثًا إليه داخل نبرة صوته الساخرة كافة التأويلات والاتهامات التي تدور في رأسه، وهو يقول "مرة واحدة!".
يجن جنون "ماركوس" مرة ثانية، يقوم من مقعده، ويعرب عن ضيقه من ذلك الاستجواب اللئيم، بينما يقاطعه العميد أكثر من مرة مُحاولًا أن يحد من غضبه، بينما يتمادى "ماركوس" مستطرِدًا، مُعبِّرًا عن رفضه الشديد لوصاية العميد الدينية التي وصلت لدرجة إلزام الطلبة بتسجيل حضور عدده أربعون مرة في الكنيسة حتى يمكنهم التخرج، ثم يُنبه العميد إلى أن ثمة كاتب يُدعى "برتراند راسل" قد كتب مقالًا متخمًا بأفكار منطقية عن الدين، بعنوان (لماذا لست مسيحيا؟)، ثم وللأسف، يتبع "ماركوس" بعض من خصال أسلوبية العميد الحوارية للمرة الأولى والأخيرة، قائِلًا في عنجهية فارغة: "هل اطَّلعت على هذا المقال يا سيدي، أعتقد أن الإجابة لا؟".
يجلس "ماركوس"، ويأخذ العميد بعدها في الإطراء بلطف مبالغ على قدراته الخطابية، شاهدًا بأنه سيصبح محاميًا فذًّا، ثم يتحول في لهجته فجأة وهو يقول "ولكنني لست معجبًا بمن تقرأ لهم، "برتراند راسل"، هذا الزاني، صاحب الخرافات، المُدافع عن العلاقات الجنسية، والمرفود من وظيفته الجامعية"، يخبط "ماركوس" على مكتب العميد في عصبية جمة وهو يقول: "وماذا عن جائزة نوبل؟!".
يلوم العميد "ماركوس" على حركته الهجومية وكأنه الشخص المسالم هنا، يعتذر "ماركوس"، فيستطرد العميد: "إن إعجابك ببرتراند راسل واستشهادك به، يُذكرني بهؤلاء الطلبة الذين يجدون في أنفسهم تفوقًا ونبوغًا ما، فيعمدون دومًا إلى التعالي على زملائهم، بل وأساتذتهم أيضًا". يجيب "ماركوس" بصوت مُثقَل، مُنهَك: "لا أستطيع التحمل أكثر من ذلك، أظن أنني سأتقيَّأ، لا أستطيع تحمل كل هذه المواعظ، وبالمناسبة، مهاجمتك لبرتراند راسل لم تكن حول أفكاره، وإنما لشخصه، والآن ياسيدي، اسمح لي بالذهاب من فضلك".
يعطيه العميد إذنًا بالانصراف فعلًا، ثم يعود ويستوقفه ويسأله إن كان يحب الانضمام لفريق البيسبول بالجامعة، يبادره "ماركوس" بالإجابة وهو في حالة واضحة من الإعياء: "أظن أن فريق البيسبول الذي سبق ولعبت فيه في مدرستي الثانوية كان شديد التواضع، لذا فإنني إذا انضممت الآن إلى فريق الجامعة وأنا بخبرتي الحالية لن أتمكن من إحراز شيء يذكر للفريق"، يعقد العميد حاجبيه، ويطلق في وجه "ماركوس" حُكمًا سريعًا أخيرًا كرصاصة قاتلة: "هل تقول إنك لا ترغب فى الانضمام لفريق البيسبول لأنك تخشى المنافسة؟!"، يضطرب "ماركوس" ويزعق بعزم ما فيه بجملة لن يتمكن من إتمامها "أنا أتكلم عن واقع عدم قدرتي من تمكين الفريق بـ.." ثم يتقيأ بالفعل ويقع أرضًا.
استنتاجات إنسانية
طوال الحوار "ماركوس" كان آدميًّا، عقلانيًّا، يُهاجم من منطلق فكريّ بحت، وهجومه نفسه يعدُّ دفاعًا عن حاله. لم يقع في أي انفلات غير مشروع إلا وقت جزمه بأن العميد لم يقرأ مقالة برتراند راسل، هذا وعلى الرغم من أن "ماركوس" هو الطرف الذي بدا منفعلًا بشكل دائم داخل النقاش. على العكس من شخصية العميد التي تطلق الأحكام بالكوم، تُصِرُّ على قراءاتها الخاصة لكل شيء، بينما تدَّعي الحكمة، الألفة، والصبر.
وهنا سأذكر تفصيلتين تؤكدان على التوصيف السابق للشخصيتين، أولهما يخص "ماركوس" الذي وما إن دلف إلى مكتب العميد، أخذ يتأمل كافة التفاصيل قبل جلوسه على مقعده، فهو الشخص الذي يهتم أكثر بواقعية كل شيء، والنظر إليه بتحليلية لا تخلو من الأدلة، وإلا ستصبح تنظيرًا كالذي يمارسه العميد طوال الوقت. أما العميد، فسنذكر له إلحاحه الدائم على "ماركوس" ألا يناديه بـ"سيدي"، لأن جامعته ليست مؤسسة عسكرية، هو الذي يستطيع التفوه بذلك وهو يُحدد للطلبة عدد المرات الواجب عليهم أن يذهبوها إلى الكنيسة كشرط للتخرج!
نظرة فنية
الحوار رسَّخ بحيوية وواقعية لملامح الشخصيتين، على الرغم من أن واحدة منهما لم ولن تظهر في الفيلم مرة أخرى.
هذا إلى جانب أن السيناريو خلق صراعًا بداخل الصراع، فنجده قد وضع "ماركوس" في حالة الإعياء الشهيرة التي تداهم أحدهم قبل تأزم التهاب الزائدة الدودية، فنرى "ماركوس" طوال المشهد مُحتقنًا، هائجًا، شاحبًا، وقطرات العرق تتصبب من جبينه، مما حمس الإحساس بالمعركة الكلامية من جهة، ونهاها ببانورامية تستحق الإشادة من جهة أخرى.
تلك الحالة التي تعمدها السيناريو في ترويق الأجواء، كتمهيد لإشعالها بشكل أشد وطأة، وهذا نراه في مرات كُثر سبق ذكرها، حينما كان يميل العميد إلى كسب وِد "ماركوس"، ثم يتضح أنه مازال مُصممًا على حرق دمه بأسلوب ألعن.
الصورة أيضًا جاءت لتلعب دورًا، ففي بداية المشهد نرى ذلك الكادر المتوازن، الذي ينتصفه رأس العميد في دلالة على أنه سيظل المُسَيطِر في كل الأحوال، وفي كادر آخر نراه وقد قام عن مجلسه، ووضع ذراعيه بوضعية مُهيمنة على كتف "ماركوس"، مما يوحي بذات الشعور.
آخر كلمتين:
- الفيلم عن رواية لـ"فيليب روث"، وهو يستحق المشاهدة وليس بسبب هذا المشهد فقط.
- أرجو من قراء المقال، ألا يطلقوا أحكامًا مطلقة على كاتبته كأحكام العميد إياها، يتهمونها بالإلحاد والدفاع عن الأفكار غير الدينية.
تعليقات
إرسال تعليق