التخطي إلى المحتوى الرئيسي

إنغمار برجمان وخريفه الذاتي!

 _نُشِر في الجزيرة الوثائقية_


" إن الفن العظيم ينبع عادة من السير الذاتية"

يقولها "توماس وولف" مُؤكِدا، مُعتنِقا إياها كمذهب، عمل بنفسه على تنفيذه طوال مدة اشتغاله بالأدب، حيث داوم على كتابة ذاته مرارا، حتى ولو كانت مُقنّعَة بعدة شخصيات وأحداث خيالية.


وفي 1978 قام المخرج السويدي الشهير بكتابة وإخراج فيلمه "autumn sonata"، الفيلم الذي يتناول كشفا مريعا لعلاقة مهترئة بين أم وبنتها،  قدمها وجيعة حية تكاد تنطق بالحقيقة، لدرجة قد تدفع المتفرج ليشك إن كان لحياة "برجمان" شخصيا صلة بما صاغه في علاقة "إيفا" و "شارلوت"، إنه تخمين يبدو حشريا، صبيانيا بعض الشيء، لكن يمكن لكل من راوده إياه الآن أن يكف عن لوم نفسه، لأنه كان مصيبا نوعا ما.


في فيلم "برجمان"، تدعو "إيفا" والدتها لقضاء بعض الأيام في منزلها هي وزوجها، الأمر يبدو عاديا، والمعاملات حين وصول الأم تبدو ودودة بينها وبين ابنتها، ثمة وحشة وحب متوقعان، تفاني من قبل الإبنة لكي تحصل أمها على الراحة الكافية في بيتها، ومثله من الأم لتبين لفتاتها أنها على خير ما يرام في مكان استضافتها، ومن ثم، وبعد مشاهد قليلة، يُنزَع فتيل القنبلة بشكل غير مقصود، ويقوم سؤال صغير بخدش طبقة الجرح المتصلبة، التي لم تُشفَى بعد رغم مرور السنوات، فتنفتىء القشرة وتفتح منفذا لسيلان الدم وكأن كل شيء حدث البارحة.

"_ إيفا، هل تحبينني؟

_ أنتي أمي

_ يا لها من إجابة!"


تنساب المواجهة بتدريج وئيد، حتى تبلغ مداها، وتصل ذروتها، ثم يعود الوضع إلى ماهو عليه في نهاية الفيلم، تغادر الأم في صمت، بينما تعاود "إيفا" مراسلتها مرة أخرى، لكي تعود قائلة " مازلنا نستطيع إصلاح كل شيء، أنا لن أستسلم، حتى وإن كان الأوان قد فات، هل تعتقدين يا أمي أن الأوان قد فات حقا؟".


"إيفا" المولعة بالحب وكذلك "برجمان"


"إيفا" فتاة مرهفة، خُلِقَت بغريزة نهمة للحب، وذلك ما وصف به "برجمان" نفسه في سطور مذكراته (كتاب المصباح السحري)، قائلا في حسم "كان قلبي ذو الأربعة أعوام مولعا بالحب والوفاء مثل الكلاب".


"إيفا" تتغزل في والدتها "كان لديكي صوتا جميلا، أحببته وأشعر به بكل جوارحي، كنت تبدين رائعة"، وكذلك "برجمان" "لقد أحببت أمي، إنها كانت تبدو جذابة في الصور، شعرها ممشط فوق جبينها العريض، ووجهها بيضاوي ناعم".


 "برجمان" و "إيفا" كانا يعانيان من فرط الحب تجاه أم لم تبادلهما العاطفة، يحكي "برجمان" عن الأمر فيصيغه ببساطة "كانت علاقتي أنا وأمي معقدة، وفائي لها كان يزعجها، دوما أراها شاعرة بالقلق تجاه طريقتي في التعبير عن حناني العنيف، فتبعدني عنها بكلمات ساحرة باردة، فأبكي بغضب وخيبة أمل".

الأمر يشبه تماما ما جاء على لسان "إيفا" وهي تقول لأمها "أغلقت على نفسك بالعمل غير مسموح لأحد أن يزعجك، كنت أقف في الخارج أستمع، عندما تتوقفين لشرب القهوة كنت أدخل لرؤية ما يحدث، لو تحدثت تردين بالكاد، وكأنك لم تحبين ظهوري، كنت رحيمة دائما ولكن فكرك في مكان آخر".


إذا، هل قام "برجمان" بخلق "إيفا" لتعبر عن معاناته الذاتية مع والدته.. 

هل صاغ علاقتها بوالدتها على هذا النحو لكي يتطهر من مشاعره القديمة، أو على الأقل يجسدها حية، جلية، تنطق بشيء مما خاضه شخصيا، مُوَثِقة نزاعه الخاص من نوعه مع أم استنزفت طفولته، آملا في أن يكون ثمة فائدة لهذا البوح السينمائي المؤرشف، فنيا وإنسانيا.


إن الأمر لم يتوقف عند هذا الحد، بل يتبين لنا أن الإطار الذي تحركت من خلاله الوالدتين، والدة "برجمان" ووالدة "إيفا"، يعد واحد تقريبا، يجمعهما برود خفي وود زائف، جمود مشاعرهما يعود لطبيعة مشاكلهما النفسية، وهذه نقطة الفرس، فعلى قدر تطابق توصيف شخصية كلا منهما في القسوة والقدرة على تخريب الحب، فهما أيضا تشابها كضحية لاضطراب ما أجبرهما على  أن يكونا ما عليه من مسوخ.


أشار "برجمان" في مذكراته إلى مشاكل أمه، ورمى إلى خلفية ما قد توحي إلينا بما يعتمل داخلها قائلا "بعد سنوات عديدة، وعندما كانت أمي راقدة في غرفتها بالمستشفى إثر أزمة قلبية، تحدثت معها عن حياتنا، أخبرتها عن المعاناة التي لقيتها في طفولتي، فاعترفت أنها هي الأخرى كانت تعاني بسببها، ولكن ليس كما توقعت أنا، لقد حملت مشاكلها إلى طبيب نفساني مشهور، فحذرها بعبارات كئيبة بأنها يجب أن ترفض بحسم كل ما دعاه ب (وسائلي المريضة)، وأن أي تساهل قد يلحق بي الضرر بي مدي الحياة". 

لكنه لم ينفتح على الكلام مستطردا أكثر، فكان متحفظا، موجوعا بالأحرى، أو لم يستطع أن يتمادى في المواجهة مع أمه إلى مستوى أبعد، والتخمين الأخير ذاك هو الأقرب للمنطق. 


لكن "برجمان" في النهاية استفاض من خلال "شارلوت"، أعطاها في فيلمه الفرصة لتبرر، لتحكي عنها، وكأنه يمنح أمه ذات الفرصة، مستمتعا ومستمعا، قبل أن يقصدنا نحن كمتفرجين ببوحها.

تحدثت "شارلوت" عن نفسها في جمل غامضة، لكنها مروعة بما فيه الكفاية، وكفيلة بأن تَحِد بصيرتنا وتحضها على رؤية مثل هذا الظلام الكامن في نفسية امرأة ك"شارلوت"، فنراها تقول مرة "لقد طوقني الخوف، وجعلني أرى صورة مفجعة لنفسي، أظن أنني لم أكبر أبدا، وجهي وجسدي يتقدمان في العمر، أحظى بالعديد من الذكريات والخبرات، لكني في داخلي أشعر أنني لم أولد أبدا".

ومرة أخرى تقول " حينما أكون خارج المنزل، ينتابني الحنين إليه، ولكن في اللحظة التي أبلغه فيها، أشعر وكأنني أبحث عن شيء آخر".


"برجمان" أوجد منفذا ما ل"شارلوت"، مخرجا قد لم يتسنى لأمه الحصول عليه، فجعل من "شارلوت" عازفة موسيقية، وأطلق يدها مُضفِيا عليها صفة العبقرية المشهود لها في لعب الموسيقى، ثم افترض على لسانها أن المزيكا كانت أرضها الآمنة، التي سمحت لها بأن تتفتح فيها كيفما شاءت، حتى وإن بدت منغلقة على الكل، فنراها تصارح "إيفا" قائلة ..

"وحدها المزيكا التي استطعت من خلالها أن أبدي مشاعري".


"برجمان" استمر في حب والدته حتى وقت صناعة فيلمه، فكان رحيما بها، باحثا لها عن حل يخفف من وقع ورطتها، حتى وهو يصارح نفسه تماما بأن هذه الورطة الخاصة بها نشبت في عنقه هو الآخر كافة براثنها.

وهو ما أوضحته "إيفا" ملخصة ذلك الوضع المزري..

"جروح الأم تنتقل إلى الإبنة، إخفاقات الأم تدفع ثمنها الإبنة، تعاسة الأم يتبعها تعاسة الإبنة، وكأن الحَبل السُري الذي بينهما لم ينقطع يوما".


تتابعات المقاومة والدمار


حينما يقع الأذى، تأخذ الصدمة حيزا من الوقت، ثم  تأتي دوائر المقاومة والدمار تباعا، على حسب ملابسات الوضع من حيث ما يشغله من الواقع الزمني، وطبيعة تقارب الأشخاص المتورطين.

وحينما يتعلق الموقف بعلاقة من هذا النوع الخبيث من الألم بين أم وابنائها، يصبح تراكم  الوجع أمرا مفروغ منه، قدرا يتهادى ببطىء وئيد، ليستقر في أعمق موضع من النفس، راسِما ملامح نفسية الشخص الواقع عليه الضرر، وكلما كان بِكرا في طور الطفولة، عمره الدنيوي قصيرا، كلما انطبعت فيه علامات هذا التعدي، وساهمت في تعزيز تشوهاته التي سيخرج بها حتما بعد انتهاء تلك المرحلة.


يقرأ زوج "إيفا" في أول مشهد من فيلم autumn sonata من كتاب قد ألفته، متحدثة فيه عن نفسها، فيقول من سطورها في وصف حالها:

"العقبة العصية التي تقف في طريقي، تتمثل في كوني لا أعرف من أنا، أنا أتخبط على نحو أعمى. أعتقد إن تمكن أحدهم من أن يحبني كما أنا، هذا سيمنحني الجرأة لكي أتقبل ذاتي. وبالنسبة لي، احتمال أن يحبني أحدهم بهذه الطريقة سيظل بعيدا إلى حد كبير".

"إيفا" بلغت هذا الحد من الاضطراب في رؤيتها لنفسها، وفقا لما عانته مع أمها بالطبع، بالإضافة لشكل الطريقة التي اختارت أن تُقاوِم بها هذه المعاناة، لم تختر "إيفا" الانسحاب أبدا، ظلت معتقدة لآخر لحظة أنها ستنال رضا أمها، كانت تفعل كل شيء في حياتها لكي تحظو بهذه المكافئة المستحيلة تقريبا، ولم تعترف أبدا بينها وبين نفسها بتلك الحقيقة. ينتهي الفيلم و"إيفا" مازالت على قتالها، لا تأبه بأن ذلك يعود عليها بمزيد من الدمار، لا تعي أن هذا سيقضي عليها تماما يوما ما.


"برجمان" يستطرد في مذكراته حول الطريقة التي استنزف مشاعره فيها مُقاوِما، محاولا برغبة عارمة كسب ود أمه، لدرجة أنه كان يدعي المرض، طمعا في الحصول على أفضل عناية ممكنة منها، ولكنها سرعان ما كانت تكتشف الأمر، بل وتعاقبه على ذلك. يضيف: " وجدت طريقة أخرى للفت نظر أمي، كانت مؤذية أكثر من سابقتها، فتعلمت أن أمي لا تطيق اللامبالاة وانشغال الذهن، ولذا دربت نفسي على خفض عواطفي، بدأت ألعب لعبة غريبة كانت مقدماتها الغطرسة والبرود، لا أذكر لماذا فعلت ذلك، ولكن الحب يدفع الإنسان ليغامر، وقد نجحت وبسرعة في خلق اهتمامها بتركيبتي المؤلفة من الحساسية والغرور. أصعب مشكلة واجهتني هي أنني لم أتمكن أبدا من البوح بسر لعبتي، وإلقاء القناع جانبا، والسماح لنفسي بدخول عالم الحب المتبادل".

لهذا، وفي موضع آخر من مذكرات "برجمان"، نرى آثارا جلية هو نفسه لا يدركها فيه، نتجت عن لعبة الكتمان الفظيعة تلك لمشاعره، حيث كان يتحدث بعفوية عن انطباع قالته عنه إحدى الممثلات التي عاش معها فترة، فيقول أنها وصفته بكونه مملا ومحددا، لا يتصرف بتلقائية وهوجائية، وبعدها يخبرنا أن تلك الممثلة انتهى بها الحال في مصحة عقلية، مبررا الأمر بحدة وتشفي قاطع "وهذا ما حصلت عليه مقابل تعبيرها الدائم عن مشاعرها". 

كبته لمشاعره طوال مدة صباه، تحول إلى صفة أصيلة فيه، بالتأكيد أفقدته شيء غير هين من نفسه، فهو حتى داخل عمله كمخرج يصف شعوره على هذا النحو، متحدثا "قناعي مُرشِح لا يمكن لأي أمر شخصي أن ينفذ من خلاله، اضطرابي لابد وأن يبقى داخلي، لابد أن لا أبدو تلقائيا ولا مندفعا".


نظل دوما معتقدين أن الخيال أكثر جموحا من الواقع، لكن الحقائق تتعدد دوما لتنفي لنا هذا الظن، واقعنا هو من ينسج خيالاتنا ويمنحها الدسامة والفنية، فالألم ليس حقا على العيشة وكفى، بينما هو أيضا حقا على الفن.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

"goodnight mommy"..أن لا تُبصِر بينما ترى

_نُشِر فى مجلة الثقافة الجديدة_ فى فيلم antichrist للمخرج "لارس فون ترير"، تبلغ البطلة الطور الكامل لنوبتها الإكتئابية، فيحل الوهم محل دماغها، ويوعز له بكل المُنكَرات، المُهلِكات، وفظائع الجُرم. تتحول تلك السيدة الرقيقة، واهنة الهيئة والقدرة إلى سفاحة متوحشة. يقودها الوهم إلى التمثيل بجسد من تحب، لتكن على يقين من أنه لن يُفارقها. تعتقد، وتمتطى إعتقادها إلى حتفها بنفس طيّعة. فما إن خَرِبَت رأسها، انتفت هويتها وضُلِلِ هواها. الوهم قتلها، وأمات الحب فيها وفيمن حولها. وفى حياة أخرى، موازية لحياة هذه البطلة المكتوبة فى سطور فيلم، شاهدتُ رجلا يحرص فى سيره، على أن يتحسس فى كل خطوة من خطاه الأرض من تحته. يومها، كنت برفقة زميل طبيب، وحينما رآنى وقد استغرقنى التحديق فى الرجل بإندهاش، أفادنى بأنها   إحدى أشكال حالة مرضية عقلية، تعرف بإسم" catatonia "، يتهيأ فيها للمريض أنه قد يفقد الأرض، لذا فهو يطمئن دوما لوجودها من تحته بتملسها كلما يُحرك قدما. وهماً آخر يدفع الحالات المتأخرة من نفس المرض، لأن تدّب فى مشيتها، ليسعها التأكد من وجود الأرض تحتها. الوهم أقصر الطر...

أضواء المدينة..الفيلم الذى يُضحِكك وإن ضَحك عليك

_نٌشر فى مجلة أبيض وأسود_ فى فيلم dangerous method 2011 يتبادل البطلان مناقشة شديدة الإيجاز حول مفهوم السعادة. فيقول أولهم: "السرور ليس بسيطا أبدا كما تعرفه أنت". فيبادره الآخر: "بل إنه كذلك، إلى أن نقر نحن بتعقيده". فيلم أضواء المدينة عام 1972 إخراج فطين عبد الوهاب وتأليف على الزرقانى، من الأفلام التى تؤيد الشِق الأخير من المناقشة، من الأفلام التى تمنح السعادة خيارا حقيقيا تطِل من خلاله ببساطة، ومن دون تكلف، أو محاولة زائفة للتحذلق والفلسفة المُدّعية. إنه الفيلم الذى ما إن تُعيد مشاهدته، تبتسم من مجرد ظهور تتراته، تستحضر معها روحه الخفيفة الطافية، وخيالات تلك الضحكات الماضية التى سبق وأن أغدق عليك بها.  تزورك لحظات البهجة التى خلقها خصيصا لك، وليس نظيرتها التى انخلقت فى مواقف مشابهة مع أفلام أخرى وفقا لظروف معينة، ملائمة لصناعة البهجة. أضواء المدينة هو الفيلم الذى يُضحكك ببساطة وإن ضحك عليك. سيناريو الحدوتة تبدو تقليدية، اعتدناها من السينما المصرية فى وقت سابق، ولاحق أيضا. ولكن ما ابتدعه السيناريو هنا، ابتكار مدخلا مختلفا آمنا، يسعه مجاراة دراما ...

"قنديل أم هاشم" .. مفهوم غير آمن للإيمان

_نُشر فى مجلة الثقافة الجديدة_ فى فيلم the skeleton key تظل البطلة تردد بهيستيرية " أنا لا أؤمن، أنا لا أؤمن، أنا لا أؤمن" ولكن صوت داخلها يجهر بنقيض ما تصرخ به تماما، إنها تؤمن بالفعل، تؤمن أن السيدة العجوز التى تمارس عليها إحدى تعاويذها، ستتمكن من أذيتها فى آخر الأمر. تؤمن بالسحر الأسود، الذى لا يمكن أن تطال يده أحدا إلا إن كان مؤمن بوجوده وأفاعيله. و"يحى حقى" فى رواية قنديل أم هاشم تطرق لمفهوم الإيمان، خاض فى جانب غير آمن منه، جانب يبعث على الحيرة، ويشير إلى وجه آخر من وجوهه الداعية إلى القلق. فـ "الإيمان" كلمة ما إن ذُكِرت فى أى تراث، يحضر معها شرطيا شعور الراحة والسلام. ولكن الحقيقة ليست مثالية إلى هذا الحد، فـ "الإيمان" أحيانا قد يكون نقمة، قد يكون كُفرا موازيا بما يجب أن نؤمن به. فبطلة the skeleton key فى واقع الأمر لم تؤمن بالسحر، بقدر ما فقدت إيمانها بالرب. ومن هذه النقطة سيبدأ كلامنا عن فيلم "قنديل أم هاشم".. الفيلم الذى أعد السيناريو له "صبرى موسى"، ليطل على شاشة السينما بكل هذه التعقيدات الفكرية ال...