التخطي إلى المحتوى الرئيسي

طارد الأرواح..ومُعضلة فِهم فن الرعب!

_نُشر فى مجلة الثقافة الجديدة_





فى فيلم " last days in the desert" 2015 ، تتحدث إحدى الشخصيات عن قيمة العلاج قائلة "التداوى هو الشىء الوحيد الذى يَحِق لنا البحث عنه، والعمل على إيجاده، والإهتمام بشأنه، أما بقية الأشياء التى تُخايلنا، ما هى إلا سراب".

ورواية "طارد الأرواح" لمن لم يتفكر، قوامها البحث عن ماهية التداوى، فما هى سوى رصد لواقعة يزعم البعض أنها حقيقية، تروى عن حادثة من حوادث الاستحواذ الشيطانى، أو تدهور الحالات العقلية والجسدية، لدرجة يقف الطب أمامها عاجزا، ومن ثم يتدخل المُعتقد الدينى، بكل أساليبه الخرافية أو البدائية، أو المتداولة عن علوم روحانية موجودة سواء اعترف بها البعض أم لا.

الرواية تُنهِك نفسها بحثا، وتثير الكثير من الشكوك فى كلا المنهجين، العلمى والدينى، بينما تضعنا فى مواجهة مؤلمة مع حقيقة واحدة، وهى الحالة المتردية التى تبلغها الطفلة "ريجان"، وما استجلبته هذه الحالة من صراعات نفسية مُحتَدَمَة، كانت فى يوم ما كامنة فى صدور كافة الشخصيات، سواء المحيطة بـ"ريجان" أو هؤلاء المتورطين الجُدد فى الأمر، بما أن دائرته لا تلبث أن تتسع مع الوقت.

كل هذه الأساسات الغنية التى احتوتها صفحات الرواية، والتى سنتحدث عنها باستفاضة فى السطور القادمة، يختزلها "وليام بيتر بلاتى" كاتب الرواية ذاته، إلى سيناريو فيلم رعب تم إنتاجه عام 1973 ، الفيلم الذى قد شاهده الملايين، وسعدوا به، وأدرجوه فى عدد من القوائم المهمة لأفلام الرعب، ولكنهم لم يعلموا عن حقيقة كونه اختصارا مُخِلا وواهيا، لرواية ارتضى صاحبها أن يُمثّل بمنطقها، فى فيلم سينمائى قام هو بإنتاجه والعمل على السيناريو الخاص به، وكأنه بعد كل المجهود الذى بذله فى تخليق حدوتة رعب راقية، تنطوى أبعادها على مناطق ملتبسة دراميا، ونفسيا، وفكريا، وحتى طبيا، لم يجد حرجا فى أن يُطوّح بكل هذا عرض الحائط،  مقابل مغازلة شباك التذاكر.

مزحة أخرى سأضيفها قبل أن أنهى مُقدمتى، هذا السيناريو الذى يدفع سطورى لكى تبدو على هذه الشاكلة من الامتعاض، قد فاز حينها كـ أفضل سيناريو مقتبس فى جوائز الأوسكار!

شخصيات مُغتالة

رواية "وليام بيتر بلاتى" اسمها "طارد الأرواح"، وهذا الاسم القاصد المُتعمِد لشخصية بذاتها، كافى لكى يوحى إلى مدى ثراء كل الشخصيات التى قد تم ذكرها فى الرواية، حتى الذى يمكن اعتباره على هامش حكايتها، وليس فاعلا رئيسيا فيها.

على قائمة هذه الشخصيات، تأتى "كريس" والدة "ريجان" الفتاة المصابة، تلك السيدة التى تعمل فى مهنة التمثيل، والتى تبدو فى مرحلة حساسة من حياتها، بعدما فارقها زوجها مهتاجا من أصداء مجال عملها، بينما هى تعيش الآن مع طفلتها الوحيدة، وصديقتها الصدوقة، وخادميّها المخلصين. فى الرواية، نشعر بمثل كل هذه التعقيدات التى تحدق بعيشة "كريس"، بداية من تأثر حياتها الشخصية بأجواء اشتغالها بالفن، حيث طبيعة أصدقائها المقربين، وسهرات الترفيه التى تقيمها فى منزلها من حين لآخر، مثل هذه المفردات تناولتها الرواية تفصيلا، مما جعلنا أقرب لواقع "كريس" بكل ملابساته، وبالتالى مهد لكى نراها جيدا من الداخل، فتتوضح لنا حالة التمزع التى تمر بها، ما بين التمتع بكل هذا النجاح الذى أحرزته، وبين حالة العدمية التى تنتابها وتكاد تقضى على شهيتها كاملة صوب الحياة، فـ"كريس" فى هذا الوقت العصيب، فقدت قدر كبير من شغفها تجاه المتثيل، بما أنها ومنذ انفصالها تقريبا تعانى من أزمة وجودية، وتفكير هوسى ينصب كله على الموت، فهى بالكاد تمارس عملها فحسب، لا يربطها به نتفة شغف، أو شذر من طموح، وتحديدا، وفى هذه المنحنى الحرج، يأتييها نصا لتقوم بإخراجه لا لتمثله، وهو حلمها القديم، الذى يهب لها نفسه طيعا فجأة لكى يتحقق، وفى الوقت ذاته، تبدأ حالة "ريجان" فى الإفصاح عن نفسها، وبالتالى ينكشف المنعطف الحاد الذى وضع "وليام بيتر بلاتى" بطلته فيه، إما أن تتخلى عن فرصتها الوحيدة لكى تستعيد حالة التورط الوحيدة الباقية لها فى عملها، أو تبقى مع طفلتها الصغيرة فى أزمتها بنصف عقل.


هذه الخلفية الدَسِمة عن "كريس" لم يتطرق سيناريو الفيلم إلى نصفها حتى، فى الفيلم نرى "كريس" شخصية عادية، نمر عليها مرورا عابرا، لا ندلف إليها من الداخل، ولا نملك عنها سوى فكرة ضحلة، تقول أنها ممثلة مُطلّقة وأم تُردد فى بلاهة لطفلتها الوحيدة طيلة الوقت "أنا أحبك بالتأكيد". تماما، كما نرى شخصية "بيرك" وهو المخرج الذى كانت تعمل "كريس" تحت يده فى فيلمها الذى كانت تقوم بتصويره وقت وقوع أحداث الرواية، لا يظهر "بيرك" فى الفيلم سوى فى لقطتين تقريبا، والأكيد أن معظم مُشاهدىّ الفيلم، لم يتعرفوا عليه من الأساس، إلا المتفرج المتفحص منهم، ففى مشهد مثلا نرى "بيرك" وهو يتحدث بلغة غير لائقة لأحد مدعوين حفل "كريس"، حيث يُلقى نكتة جنسية لن يفهم من يشاهد الفيلم معناها، لأنها ببساطة مُقتطفة بجهل من مشهد كامل متماسك فى الرواية . والسؤال هنا سيظل بلا جواب، لماذا يُشوّه كاتب الرواية بنفسه شخصيات روايته؟، لماذا لا يُبدى اهتماما بشخصية مثل "بيرك"، ذاك الرجل غليظ اللسان، رفيق الخمر، والصديق العزيز لـ"كريس" رغم كل شىء، وخصوصا وأن "بيرك" له دورا هاما فى الأحداث فيما بعد، فعندما ستتطور حالة "ريجان" ستقوم بقتله، وفى الأوقات التى ستُظهِر فيها انفصاما فى الشخصية، ستستخدم لسان "بيرك" ومفرداته، وطريقته الهجومية التهكمية الوقحة، وأراهن أيضا أنه حينما تحدثت "ريجان" فى أحد المرات بلسان حال "بيرك فى الفيلم، لم يلتفت الكثيرون لهذه التفصيلة، حتى وإن شاهدوا الفيلم ألف مرة، فسيظل الأمر بالنسبة إليهم غير مُلاحظ تماما، لأن العمل من البداية على التعريف بالشخصية، ودفع المتفرج لتمييزها لم يتم.

شخصية "ميرين"، شخصية أخرى تأتى على رأس القائمة، فهى رمانة ميزان تنصب عندها كافة أزمات الشخصيات، سواء أزمة "كريس" أو "كاريس" وهو الأب الذى تلجأ له "كريس" بعدما يعجز الأطباء عن مساعدتها. "ميرين" الأب المؤمن، شديد اليقين والتنوير، من سبق له وأن واجه الشيطان فى عمليات طرد الأرواح قبلا، والذى وإن صُحَت معتقداته أو لا، فهى راسخة بداخله لا يفت عضدها شىء، كان ملاذا ومُنتهى لأهل بيت "ريجان". ففى الرواية، نتبين حالة الثِقَل والغرق، التى تشرأب لتغمر أعناق كافة الشخصيات المحاوطة بـ"ريجان"، بداية من خيبة الأمل التى تركب ظهر "كريس"، وتَوأد ابنتها أمام عينها، بينما تراها متجسدة فى كيان آخر لا يمت لها بصلة. ومرورا بالتفسخ الوجدانى الذى يحياه الأب الشاب "كاريس"، والذى قد فقد إيمانه من مدة، بعدها تضربه صدمة وفاة أمه فى مقتل، شاعرا بذنب مُلِح فى كونه تركها تموت مُهمَلة، وبين الفجيعتين تدخل "ريجان" حيز أفكاره المُشتت، وتُجبره على أن يبحث بخصوص حالتها، أن يُسخر عصارة خبرته كطبيب نفسى، وكقِس كنيسة، ويعى بالضبط ما تعانيه الفتاة، هل هى مريضة عقلية كما يتمنى أن تكون لكى لا يعاوده إيمانه بالله وبشياطينه، أم فتاة تعانى من قبضة شيطانية حقيقية ستعيده رغما عنه إلى تصديقه فى الرب. هذا الصراع الرائع، الجدالى، والمحبوك بشدة نتعرض له فى الرواية، بينما يتبدى فى الفيلم صامتا، سخيفا لا معنى له، فمثلا نرى فى الفيلم "كاريس" يصلى مرتين فى الكنيسة، يتلو كلمات الرب وهو محجوب الكيان، وبعيد للغاية عن المتفرج، وفى المقابل مشاهد صلاته فى الرواية غنية بنزاع مُرَوّع بين قلبه وعقله، إيمانه ونُكرانه. "كريس" قُبيل النهاية تلجأ إلى "كاريس" ولكن الأخير لا يزيح الحِمل من فوق صدرها، لأنه يرفع أضعاف أضعافه على قلبه، وفى ذروة هذه المعمعة يأتى "ميرين" بيقينه، وجَلده، ليربت على كواهل كل من فى المنزل، بما فيهم "شارون" سكرتيرة "كريس"، والتى وبالمناسبة لم يتطرق السيناريو لتوصيف مهنتها حتى فى الفيلم. فحضور "ميرين" يُعرى المعاناة كاملة، ويؤكد على طبائع الشخصيات، ويلصقها ببعضها البعض، ويُحَمّى وطيس الإحساس الجاثم بحالة "ريجان" التى لم يداويها الطب ولا حتى الدين، وإنما الإيمان بأن ثمة ما يستحق القتال من أجله، بأن ثمة نور علينا أن نستمد منه القوى. فـ "ميرين" لم ينجح تحديدا فى عملية طرد الأرواح، ولكنه نجح فى أن يعيد لـ"كاريس" قوته النفسية، وأن يجعل "كريس" تطمح فى شفاء ابنتها. كل هذه الملحمية الدرامية البليغة لن تتعرض إليها أبدا فى الفيلم، لأن الفيلم ببساطة قد قدم إلينا نسخة مُهلهلة من حدوتة خرافية لفتاة ملبوسة، وكفى.

مشاهد مبتورة

الفيلم يحتذى بخط سير الرواية تماما، يتبعها فى ترتيب وقائع الحكى بالمشهد تقريبا، ولكنه يبدو كمِثل أعمى يتشبث بذيل أحدهم، دون أن يتعرف إلى وِجهَته. فبدا الأمر، وكأن السيناريو يتلقف مشاهد الرواية، ويُفرِغها من معناها مُشبِكا إياها معا فى عجالة، مراعاة للوقت، واعتقادا بأن تلك هى الطريقة النموذجية لكتابة الرواية للسينما، أن تنعقد المشاهد ذاتها فى بعضها البعض بحوار أقل، ومعانى مسلوقة.



فمثلا فى بداية الفيلم، نجد "ميرين" مُتجِه لميدنة الموصل، والتى يتواجد بها تمثال الشيطان بازوزو، وقد فسرت الرواية سبب ذهابه لهذه المدينة وقتها، والأحاسيس التى انتابته وهو يواجه التمثال، متنبأً بأنه سيواجه شيطانه القديم مجددا، ولذا فهو كان على علم بعملية طرد الأرواح الخاصة ب"ريجان"، قبل أن يُستدعى إليها. فى الفيلم نتعرض لنفس الوقائع التى تفيد توجه "ميرين" لمواجهة تمثال بازوزو، ولكن المتفرج لا يعى شيئا مما يحدث فى هذه التقديمة، وسيظل على غير علم بعلاقتها بما سيحدث طوال الفيلم، حتى نهايته.

فى الفيلم نرى "ريجان" فجأة تحت الفحص، على الرغم من أن الفتاة كانت فى المشاهد السابقة صحيحة معافاة، أى أنه حتى عندما تحذلق السيناريو، محاولا الاختلاف عن تمهيدات الرواية، انتهى الوضع إلى كارثة.

ونأتى الآن عند النقطة الأهم، وهى الطريقة التى تعامل بها السيناريو مع مشاهد السجالات بين الأب "كاريس"، والشخصيات التى كانت تتحدث بلسان "ريجان"، تلك المبارازات الخفية، والتى كانت تُفجر عقل "كاريس" وتُخربطه بين كونه يخاطب شيطانا بحق، أم مجرد مريضا عقليا شديد الخطورة. هذه المتاهات الفكرية هى التى احتوت على الرعب الحقيقى، فإن كانت رواية طارد الأرواح رواية رعب من الطراز الأول، سيكون ذلك بسبب هذا الجزء الجحيمى فيها، والذى يقود إلى الجنون أحيانا، ويفسح مجالا لعدد من الأسئلة الوجودية المخيفة التى تدق أذهاننا، وتشعرنا بغربة حقيقة مع عدة حقائق، مصطحبة إيانا للإطلاع على عدد من الوقائع التاريخية، الموثقة طبيا وشعبيا حول هذه الحالات المُشابهة التائهة ما بين التشخيصين. وقد ظلت الرواية محافظة على هذا النوع من الالتباس حتى النهاية.  أما الفيلم، فاختار أن يتجاوز كل هذا الشطط الجهنمى، ويحصر مساحة الرعب فى حيز ضئيل معتاد، أقل وطأة بكثير مما كان فى جعبة الرواية.

فى البدء والمنتهى كان المخرج

فيلم the exorcist برغم كل هذه الفوضى الحكائية المُوثقة فيه، سيظل فيلما هاما وفقا لناحية فنية واحدة فيه فقط، ولكنها كانت كافية لتُسربه إلى قلب الجماهير وقتها، وتدعه محفورا هناك حتى الآن، فإن غاليت فى انتقاد هذا الفيلم، لن تقوى على كرهه أبدا، والفضل فى هذا سيعود دوما إلى مخرجه "وليام فريدكين".

فللحق، استطاع "فريدكين" أن يُنقذ حدوتة "بيتر بلاتى" التى أساء هو ذاته إليها، فقد وضعها الأول فى بيئتها البصرية المناسبة لها تماما، بداية من مظهر "ريجان" وقواها الخارقة، ومرورا بالقدرة المذهلة على استخدام الإضاءة، وحثها على قول ما تخاذل السيناريو فى  بخصوص الشخصيات، وهيبة المواقف، ويمكننا أن نعود فى ذلك إلى مشاهد عملية طرد الأرواح، وكيف كانت غرفة "ريجان" نسخة مطابقة لما قد تتخيله عنها فى ذلك الوقت، غرفة يملأها السقيع، تحدوها الإضاءة الزرقاء المقبضة والزاهدة، وكأنها ارتمت فى جزء مختلف وبعيد عن العالم، وابتلعت معها الأبيّن "مرين" و"كاريس".



هذا بالإضافة للعناية الحرفية بشريط الصوت، الإصرار على الصمت التام فى أغلب المشاهد، واستخدام الموسيقى بحذر شديد فى مشاهد أخرى، ولا يمكننا أن نغفل طبيعة العمل على صوت "ريجان" الأجش المُقبِض، والذى سيظل من الأيقونات التى تميز فيلم the exorcist.

آخر كلمتين:

_ تشيخوف يقول "إذا ظهر مسدس فى قصة ما، فسيكون من الضرورى فى النهاية أن يطلق النار". ولهذا فإن كان "وليام بيتر بلاتى" قد قرر تسطيح كافة رموز، ومعانى، وتفاصيل أحداث وشخصيات روايته فى الفيلم الذى أعده للسينما، فكان من الأجدر به أيضا استبعاد أنصاف وأرباع ملامح بعض المواقف، والأبطال التى أبقى عليها، لأن وجودها المُشوش لم يضف شيئا، أى أن مسدس تشيخوف ظهر فى القصة دون إطلاق أى نار. 

تعليقات

  1. As stated by Stanford Medical, It is really the ONLY reason this country's women get to live 10 years more and weigh an average of 42 lbs less than us.

    (And actually, it has totally NOTHING to do with genetics or some secret diet and absolutely EVERYTHING to "how" they eat.)

    BTW, I said "HOW", and not "what"...

    TAP on this link to discover if this little quiz can help you discover your real weight loss possibility

    ردحذف

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

"goodnight mommy"..أن لا تُبصِر بينما ترى

_نُشِر فى مجلة الثقافة الجديدة_ فى فيلم antichrist للمخرج "لارس فون ترير"، تبلغ البطلة الطور الكامل لنوبتها الإكتئابية، فيحل الوهم محل دماغها، ويوعز له بكل المُنكَرات، المُهلِكات، وفظائع الجُرم. تتحول تلك السيدة الرقيقة، واهنة الهيئة والقدرة إلى سفاحة متوحشة. يقودها الوهم إلى التمثيل بجسد من تحب، لتكن على يقين من أنه لن يُفارقها. تعتقد، وتمتطى إعتقادها إلى حتفها بنفس طيّعة. فما إن خَرِبَت رأسها، انتفت هويتها وضُلِلِ هواها. الوهم قتلها، وأمات الحب فيها وفيمن حولها. وفى حياة أخرى، موازية لحياة هذه البطلة المكتوبة فى سطور فيلم، شاهدتُ رجلا يحرص فى سيره، على أن يتحسس فى كل خطوة من خطاه الأرض من تحته. يومها، كنت برفقة زميل طبيب، وحينما رآنى وقد استغرقنى التحديق فى الرجل بإندهاش، أفادنى بأنها   إحدى أشكال حالة مرضية عقلية، تعرف بإسم" catatonia "، يتهيأ فيها للمريض أنه قد يفقد الأرض، لذا فهو يطمئن دوما لوجودها من تحته بتملسها كلما يُحرك قدما. وهماً آخر يدفع الحالات المتأخرة من نفس المرض، لأن تدّب فى مشيتها، ليسعها التأكد من وجود الأرض تحتها. الوهم أقصر الطر...

أضواء المدينة..الفيلم الذى يُضحِكك وإن ضَحك عليك

_نٌشر فى مجلة أبيض وأسود_ فى فيلم dangerous method 2011 يتبادل البطلان مناقشة شديدة الإيجاز حول مفهوم السعادة. فيقول أولهم: "السرور ليس بسيطا أبدا كما تعرفه أنت". فيبادره الآخر: "بل إنه كذلك، إلى أن نقر نحن بتعقيده". فيلم أضواء المدينة عام 1972 إخراج فطين عبد الوهاب وتأليف على الزرقانى، من الأفلام التى تؤيد الشِق الأخير من المناقشة، من الأفلام التى تمنح السعادة خيارا حقيقيا تطِل من خلاله ببساطة، ومن دون تكلف، أو محاولة زائفة للتحذلق والفلسفة المُدّعية. إنه الفيلم الذى ما إن تُعيد مشاهدته، تبتسم من مجرد ظهور تتراته، تستحضر معها روحه الخفيفة الطافية، وخيالات تلك الضحكات الماضية التى سبق وأن أغدق عليك بها.  تزورك لحظات البهجة التى خلقها خصيصا لك، وليس نظيرتها التى انخلقت فى مواقف مشابهة مع أفلام أخرى وفقا لظروف معينة، ملائمة لصناعة البهجة. أضواء المدينة هو الفيلم الذى يُضحكك ببساطة وإن ضحك عليك. سيناريو الحدوتة تبدو تقليدية، اعتدناها من السينما المصرية فى وقت سابق، ولاحق أيضا. ولكن ما ابتدعه السيناريو هنا، ابتكار مدخلا مختلفا آمنا، يسعه مجاراة دراما ...

"قنديل أم هاشم" .. مفهوم غير آمن للإيمان

_نُشر فى مجلة الثقافة الجديدة_ فى فيلم the skeleton key تظل البطلة تردد بهيستيرية " أنا لا أؤمن، أنا لا أؤمن، أنا لا أؤمن" ولكن صوت داخلها يجهر بنقيض ما تصرخ به تماما، إنها تؤمن بالفعل، تؤمن أن السيدة العجوز التى تمارس عليها إحدى تعاويذها، ستتمكن من أذيتها فى آخر الأمر. تؤمن بالسحر الأسود، الذى لا يمكن أن تطال يده أحدا إلا إن كان مؤمن بوجوده وأفاعيله. و"يحى حقى" فى رواية قنديل أم هاشم تطرق لمفهوم الإيمان، خاض فى جانب غير آمن منه، جانب يبعث على الحيرة، ويشير إلى وجه آخر من وجوهه الداعية إلى القلق. فـ "الإيمان" كلمة ما إن ذُكِرت فى أى تراث، يحضر معها شرطيا شعور الراحة والسلام. ولكن الحقيقة ليست مثالية إلى هذا الحد، فـ "الإيمان" أحيانا قد يكون نقمة، قد يكون كُفرا موازيا بما يجب أن نؤمن به. فبطلة the skeleton key فى واقع الأمر لم تؤمن بالسحر، بقدر ما فقدت إيمانها بالرب. ومن هذه النقطة سيبدأ كلامنا عن فيلم "قنديل أم هاشم".. الفيلم الذى أعد السيناريو له "صبرى موسى"، ليطل على شاشة السينما بكل هذه التعقيدات الفكرية ال...