_ نُشِر في الجزيرة الوثائقية_
" ماينفعش أطلب من كاتب إنه يكتب فى موضوع ما، هو اللى لازم ينفعل باللى بيكتبه، ولما يجيبهولى لازم أنا كمان أنفعل بيه. آه ممكن أقول لواحد نجار أنا عاوز الكنبة دى تبقى بالطريقة الفلانية، اعملى إيديها مش عارف إزاى، لكن ماينفعش أقول لواحد سيناريست بيفكر، اعملى ده واعملى ده"
قالها عادل إمام عام 1990، ردا على سؤال الاعلامية سلمى الشماع حول رغبته بالعمل على موضوع بعينه، وعما إذا كان يمكنه طلب ذلك من سيناريست ما. وفى عام 2013 قاطع حديث مستضيفه أشرف عبد الباقى، حينما كان يعدد أنواع الكوميديا فى أعماله (كوميديا سودا، كوميديا فارس) فقال بحسم " الكوميديا هى الكوميديا يا أشرف، بلا كوميديا سودا بلا بيضا، الكوميديا هى الكوميديا".
بتأمل التصريحين، نجد أننا أمام فنان يعمل ويفكر وفقا لما يمليه عليه شعوره. ففى التصريح الأول، يمكن لأي ممثل قد يُسأل حول رغبته فى تقديم موضوع بعينه، أن يجيد التعبير وصولا لإجابة نموذجية، ترضى غروره كمؤد، يطمح فى أداء شخصية مركبة صعبة، أو يجاوب من منطلق سلطته كفنان يملك القدرة على تطويع المواضيع التى يقدمها، بل ويخلقها من العدم، فيرى أنه مسؤول ،بما أنه سيد قراراته، عن مناقشته للقضايا الاجتماعية التى تهم المواطن. ولكن عادل إمام اختار ألا يجيب الإجابة المضمونة، والمتوقعة أيضا. بينما تحدث بلسان حاله العفوى، الذى لا يميل للمغالاة وتحميل الأشياء أكثر مما تحتمل. تماما، كما اعترض على تصنيفات الكوميديا فى التصريح الثاني، فهو يُسقِط الحسابات التى تحوم حول الفعل، لا يذهب معها بعيدا، وإنما يكفيه أن يُحيل هذا الفعل إلى واقع، يعايشه وكفى. فلم يدفع نفسه للموافقة الجبرية على تصنيف فعل الضحك، لمجرد أنه متفق عليه.
السؤال هنا، هل هذه العفوية موجودة بالفعل فيما أنتجه إمام من تاريخ سينمائى؟
بالطبع هى موجودة وبنسبة كبيرة .. كبيرة مقارنة بنجوم جيله، ونجوم الجيل الحالى أيضا. والحقيقة أن تربع عادل إمام على القمة، لم يحدث أبدا نتيجة لحالة تخطيط أو دراسة ووعى. بل لو كان قد تدخل شىء من هذا الحرص فى توجيه مسيرته الفنية، لأطفأه هو شخصيا، وبالتالى قضى على طريقه إلى الزعامة التى لقبه الناس بها. فإن كان زعيما بحق، فهو زعيم الارتجال، التقلب وفقا لما يمليه عليه "انفعاله" كما وصف هو فى لقاء 1990.
لو وَجدَت هذه التمهلات مكانا فى تفضيلات عادل إمام، لتراجع عن بطولة فيلم "الغول" 1983، وهو الذى انتهى قبله بعام من بطولة فيلم "عصابة حمادة وتوتو" 1982 . ولم يكن ليقدم فى العام التالى من إنتاج "الغول" فيلم "الحريف". فالفيلمان بمثابة جرعة دسمة من القتامة بما فيه الكفاية، لتُروع أى نجم كوميديا من الخروج بها فى توقيت متقارب إلى الجمهور، فليس ثمة مؤكدِات تضمن أن شريحة ما من هذا الجمهور لن تفكر فى التشكك بخصوص خيارات نجمها الكوميديان، وهم الذين يعتادونه فى ثوبه البسيط، حتى وإن أطل عليهم دراميا بشكل محتمل فى أفلام سابقة مثل "الجحيم" 1980، "المشبوه " 1981، "على باب الوزير" 1982 وغيرها.
لكن هذا لم يحدث، لأن إمام لم يدخل قلوب الناس لسبب بعينه، لذا فهو لم يخرج منها لأى سبب. فالمعادلة الوحيدة لهذا النجم، تكمن فى كونه خارج المعايير المعهودة للتقييم، بشكل يجارى مؤشراته الزئبقية فى الاختيار.
فبعد عمله فى الحقبة التسعيناتية مع وحيد حامد (رفيق سلاحه على حد وصفه) بأفلام عملاقة مثل "الإرهاب والكباب"، "المنسى"، "طيور الظلام"، "اللعب مع الكبار" وغيرها، نجده بعدها يعود لأفلام "بخيت وعديلة" كمن لم يرفع شارة الجِدية من قبل، لأنه لم يرفعها من الأساس لغرض التباهى بها، ولم يحاول بعدها أن يحافظ على نزعة القوالب الاجتماعية والسياسية الفريدة، والتى اتسمت بها هذه الأعمال، ليرسم من خلالها طريقه القادم سواء عاد بموضوع كوميدى أو غيره. ولكنه دائما عفوي، لا ينحاز لفِكر بعينه لمجرد وجاهته، ولا يميل للتمسّح بقيمة ما عن طريق أهمية القضية التى يناقشها فى فيلمه. بينما يستمد كل قدره، ومكانته من خلال أي دور يحب أن يلعبه، وأي موضوع يحب أن يخوض فيه.
فهو لم يقبل دور المواطن البسيط فى فيلم "الإرهاب والكباب" ليغازل الجمهور، ويظهر لهم فى هيئة تُشبههم، ولم يكن جزءا من الملحمة السياسية فى "طيور الظلام" لكى يتصدر قوائم الفنانين أصحاب القضايا الشائكة، بل المسألة عنده أهون من كل هذه التعقيدات. ولهذا لم يدر له الجمهور ظهره أبدا، حتى أوقات الزلات والنجاحات غير المدوية.
وماذا عن الأداء؟؟
ثمة فئة من الممثلين أطلق عليهم جوزيف.م.بوجز "المفسرون والمعلقون" وقد عرّفهم قائلا: "يلعب المفسرون والمعلقون شخصياتهم التمثيلية على نحو وثيقِ المشابهة لأنفسهم ذاتيا، فهم يتقنون أدوارهم دون أن يفقدوا سماتهم الشخصية المميزة لهم تماما. قد يغيرون قليلا من أنفسهم ولكنهم أبدا لا يضيعونها للنهاية. تُمثل المحصلة النهائية لعمل هؤلاء توافقا فعالا بين ذواتهم وبين الأدوار التى يؤدونها. فهم يبوحون مع الشخصية التى يلعبونها بشىء من مشاعرهم الخاصة".
عادل إمام ينتمى إلى هذه المدرسة التمثيلية النادرة، فهو لا يخسر نفسه أبدا فى إطلالة أى دور يلعبه، لا يتوه داخل شخصياته، بينما يظل حضوره الخاص يقظا، ولكن فى الوقت ذاته يُحرِك مجسا خفيا، ليقيس به نبض هذا الدور، يتشرب إيقاعه ويتناغم معه، ليبدو كل منهما منسجما للغاية. فنجده داخل ثوب"حسن سبانخ" فى الأفوكاتو 1984، لاهثا، حيويا، يتحدث بتهافت، يخطو بتعجل، يبدو كالكرة المطاطة فى هيئته بما يوافق طبيعة الشخصية. أما فى "طيور الظلام" 1995 فيتماهى مع "فتحى نوفل" ليبدو كطير الظلام المتربص، المتمهل فى ردات فعله، الهادىء فى انفعالاته، متصيدا بعينه، متأنيا فى نطقه، وشىء من نفسه المكسورة بداخله يخيم على لغته الجسدية.
وبين النقيضين، لا يفقد أبدا ابتسامته البلسمية بين جمل الحوار، النظرة الحادة التى تبرق من حين لآخر، نبرة الصوت التى يوظفها بطريقته المعهودة صعودا وهبوطا، والوجه المصمت القادر على البكاء بوجع من دون رفة رمش، فعادل إمام حينما يبكى، لن يسعك سوى أن ترى دموعه فوق قسماته المحايدة، لا تعرف متى انهمرت وغمرت وجهه بهذا القدر السلس، فهو لا يحتاج لأن يقطب حاجبيه أو يكرمش ملامحه.
نعم، هو عفوي حتى فى آدائه، يُحضر هنا أيضا تعويذته الخاصة، التى لا يسعك إلا أن تغرم بها.
قد يتهم البعض عادل إمام، بأنه أهدر الكثير من موهبته فى بطولة أفلام لا تستحق، وقد يكون هذا صحيحا، ولكنه على الأقل كان صادقا، مخلصا لنفسه أولا فى الاختيار، بعيدا عن أى غرض آخر، وفى النهاية لم يكن إلا الزعيم، ولن يكون دوما سوى هذا الزعيم.
فتحية لمن تعثر بالزعامة وهو يتفقد شغفه، لمن تزعّم بشهية الهاوى، لمن هوى فاحترف.
آخر كلمتين
_ على الرغم من كونه واحدا من المشاهد العظيمة الأخرى، إلا أنه أكثرها لفتا للأنظار، فمشهد دعاء زكى الدسوقى فى فيلم "عمارة يعقوبيان"، مشهد لابد وأن تشاهده مرات ومرات لعادل إمام.
_ مراجع: موسوعة الممثل فى السينما العربية (إعداد محمود قاسم). وكتاب "فن الفرجة على الأفلام" لـ جوزيف.م.بوجز.
تعليقات
إرسال تعليق