التخطي إلى المحتوى الرئيسي

joy .. معضلات ما بعد الموهبة

_نُشِر فى الجزيرة الوثائقية_



" لا أريد أن يبتاع الناس مكنسة قَيّمة واحدة، بينما يمكننى أن أتكسب من وراء اضطرارهم لشراء العديد من المكانس البخسة رديئة الصنع."

الكادر ملاصقا لوجه "Joy"، يتصيّد قسمات وجهها المُتصنتة فى تهكم وإنهاك، والواقفة على حافة واقع مُرّ، وإيمان منبوذ. "Joy" امرأة قررت يوما أن تُصدق حدسها بنفسها، فى عالم آفته التشكُكُ. إنها قصة كل يوم، الصراع المعتاد بين الحُلم والحياة، ولكن المخرجDavid O.Russell اختار أن يراهن عليه بطريقة مغايرة هذه المرة. سواء على مستوى الأسلوبي الإخراجي، أو من زاوية التناول الفكرية، وهو ما سأتطرق إليه تفصيلا فى الفقرات القادمة.

"Joy" ليس فيلما عظيما، ولكنه فيلم حميمي مُلهم، يستحق المشاهدة والثناء. الجيد فيه، لا يصحّ التعامل معه بالجُملة، فهو يحمل عددا من اللمسات الفيلمية الجديرة بالوقوف أمامها، والباعثة على رصدها بتمهل، دون التقليل من شأنها لمجرد الاستعلاء على موضوعها المُتعَرِّى دراميا.

 

موهبة القوة

"جوى" امرأة تقرر إعادة اكتشاف موهبتها القديمة بخصوص تصنيع الأشياء، والتى ضاعت هباء خلال سنوات ماضية، عكفت فيها على خدمة أفراد أسرتها، والتورُّط بما فيه الكفاية مع خصالهم ومشاكلهم. فتُقبِل على تصميم مِكنسة مُنظِفة بسيطة الطابع، وتهِم بتسويقها وبيعها.  المخرج "Russell" لم يُهدر الكثير من وقته فى مناقشة مدى موهبة "جوى" من عدمها، فهو من الأساس قد اختار قصة امرأة اخترعت مِكنسة من البلاستيك، ولم يفضل عليها أخرى أضافت مثلا إلى فكرة الانشطار الذرِّى. غاية "Russell" كانت التركيز على المقومات التى تؤهل المرء لكى يتمكن من تحقيق نفسه، ويبلغ "بهجته" مُكتملة.

"جوى" لاقت الأمرّين لكى يلتفت الناس إلى مكنستها البلاستيكية غير المُتكلفة، وكأن الموهبة الحقيقية تكمن فى قوة احتمال كتفيْ المرء، وملائمتهما لتلقِّى أوزان كافية من الأعباء والمعوقات. وهذا ما حرص السيناريو على التداول بشأنه طوال الفيلم، بحيث برز فى مشاهد بعينها، مثل ذلك المشهد الذى تنبأت فيه "ترودى" (مموِّلة مشروع جوى) بالإخفاق فيما تعتزم جوى فعله، وفقا لوقائع حياتها الموحية بالفشل والتقاعس.

فكل الألسنة التى تُثّبط من عزيمة "جوى" لا تصيب موهبتها فى شىء، وإنما يتوجّه مقصد سهامها صوب قدرتها ومقوماتها النفسية. ولهذا فإن انتقاء اسم "جوى" ليكون عنوانا للفيلم، قد بدا الأنسب، والأوفق مجازا، فهذه المرأة اتسقّت مع ذاتها، فاستحقت معنى اسمها.

 


منهجية إخراجية

والدة "جوى" تواظب على مشاهدة المسلسلات التليفزيونية المُوَجهّة لربات البيوت، ومنذ المشهد الأول أصرّ "Russell" على أن يؤكِّد حضور بلادة هذه البرامج، ومزجها بأجواء العالم الذى تحياه "جوى". لدرجة دفعته بأن يبدأ الفيلم بمشهدٍ أبله كامل ينتمى إلى هذه النوعية الدرامية المُعلّبة، وكأن حياة "جوى" التى سيأخذ فى حكيها بالتتابع فيما بعد، قد تماسّت مع هذه الحواديت المقيتة، والساذجة بما فيه الكفاية. كما أنه لم يكتف بهذا وحسب، وإنما حَرصَ من حين لآخر على مداهمة المتفرج بجُملة، أو مقتطف من نفس المُسلسل، كمن يقصد دفعنا لحفظ أسماء أبطاله، ومواقفه البارزة، مثله مثل شخصيات الفيلم الرئيسية. ومع قرار "جوى" بنبذ حياتها الحالية، ينقطع سيل هذا الهراء، وينزاح الكابوس الموازى، مرتضيا أن يمنحنا متابعة الفيلم بسلام.

كادرات "Russell" واكبت المشاعر بمهارة، فحينما كانت والدة "جوى" تخبرها عن مجىء شخصيتها الأثيرة فى مسلسلها القمىء، التقطتها الكاميرا من أسفل، بصورة متأهبة مغوية بعض الشىء، وفى الوقت ذاته صّورت رد فعل "جوى" بتعبير مأخوذ، مُشتت، وكأن جزءا منها بات متصالحا مع هذه الحالة البيّنة من الضياع.

ولا يمكننا أن نغفل أيضا، الكادر الرائع الذى جمع "ميمى" (جدة جوى، التى تَحُضَها دوما على النجاح) و"جوى" وقد احتلّت والدتها المسافة القاطعة بينهما، فى هذا الوقت من حياة "جوى" كانت "ميمى" تبثّ فى نفسها أملا ومعنى، ولكن "Russell" قرر فى خبث أن يوحى إلينا بأن ثمة حائلا ما بين "ميمى" و"جوى"، يتمثل فى تلك الحياة الفاسدة المحاصرة لجوى. ولنفس السبب أيضا، بدت الأم مُتربعّة بقعة الضوء فى الكادر، بينما ظهر جسد كل من "جوى" و"ميمى" مظلما، لا نكاد نرى منه شيئا إلا ظِلّه النحيل.


فى مشهد ما عرضت "جوى" مكنستها على مسئول ترويج يعمل لصالح قناة تليفزيونية، الموقف بدا حماسيا ومُوتِّرا، لذا فقد ساهم "Russell" فى زيادته اتقادا، حيث حجب عنا رؤية  "جوى" وهى تتعلثم أمام الجميع على الطاولة، واكتفى برصد قسمات وجه المسئول وهو يحرك رأسه محاولا مجاراة حركة "جوى" المرتبكة، إلى جانب صوت المياه المنسكبة، وخبطات ساق المكنسة التى تلوح بها فوق أرجل مجموعة المتلقِّين.

"Russell" حيوي، يعجبه استخدام الموسيقى بكافة أنواعها، مع إبدائه القدرة على توظيفها واستغلالها جيدا. فتارة يستخدم موسيقى الفيلم الأصلية، بشكل حميمى هادىء فى أوقاتها اللائقة، مثل ذاك المشهد الذى تنحبس فيه أنفاس "جوى" مبهورة بعد نجاح إعلانها عن مكنستها فى التلفاز. قبلها بدقائق (وقت العرض نفسه) قد استخدم "Russell" موسيقى من نفس النوع المُلهم ولكنها هنا ذات طابع يقِظ بعض الشىء. فى حين أنه لجأ لمقتطفات بعينها من بعض الأغانى الصاخبة، واضعا إياها فى شريط الصوت، برغم أن مَشَاهدها لم تكن لتمانع أبدا بأن يصاحبها موسيقى خالصة، ولكنه "Russell" الذى يستطيع توليف النوعين من الإيقاع دون أدنى شعور بالغرابة، وبما ميّز الفيلم بأسلوب خاص حتى على مستوى الصوت.

تنفيذ "Russell" لنهاية الفيلم، معتنيا بالتفاصيل الدقيقة، ومسايرا لتلك الحالة الروحانية التى حافظ عليها سابقا. فتحكّمُه المُتقن بأدوات بصرية وصوتية كرتونية للغاية، ساهم فى استحضار الشعور بالامتلاء، مثل ذلك الثلج المصنوع المتساقط من سقف متجر ألعاب بسيط، الصوت المُسجَل الذى يوظفه المتجر لجذب انتباه الزبائن، والاكتفاء به لحظتها دون الاستعانة بأى تداخل موسيقي، كل هذا متماشيا مع تكنيك المونتاج المتوازى بين انتصار جوى الصغير فى ذلك اليوم، وإنجازاتها الكبيرة فى الحياة الآتية. فبرغم كل هذه التجلّيات التى حدثت وقتها، يؤكد السيناريو أنها لم تكن سبب نجاح "جوى"، يعاود تكرار جُملة "لم تكن تعلم يومها، لم تكن تعلم أبدا أنها ستنجح"، وهذا المعنى هو المُعادل للمغزى الذى يهم "Russell" طوال الفيلم (لم تبتهج يومها لأنها ستنجح، وإنما أتمّت سعادتها فقط لأنها كانت وستظل قوية).

 


سيناريو متأرجح

سيناريو فيلم "Joy"، سيناريو متطرف بإجحاف ما بين نقاط الضعف والقوة. فنجده متماسكا، له رونقه الخاص فى صياغة العلاقات ما بين الشخصيات، مثل علاقة "جوى" وطليقها، علاقة "جوى" بـ "ميمى"، وعلاقتها أيضا بأختها، وبالأخص ابنتها الصغيرة، التى استخدم السيناريو وجودها لصالحه، وجعلها عنصرا مهما فى صياغة الحدث، بعيدا عن كيلشيه استبعاد الأطفال واعتبارهم مجرد دُمى لابد وأن تذهب لفراشها مبكرا. ولكن فى الوقت نفسه ثمة علامات استفهام كبيرة فيما يخص علاقة "جوى" بابنها الصغير، فلم نسمع له حِسا طوال الفيلم، والسيناريو أشار مجرد إشارة فقيرة بائسة لوجوده، وكأنه يُعلمنا به وكفى.

كذلك لم تكن نصف المعلومة المقتضبة، والمختصرة جدا عن حياة "جوى" الزوجية السابقة كافية، وبما أن السيناريو قرر تفصيلا أن يخوص فى بداية هذه العلاقة قديما، فلماذا لم يتمم جهوده ويخلق أبعادا مكتملة عن الموضوع، ففى هذا الجزء على وجه الخصوص نشعر ببعض التلفيق، وكأنه تم إبعاد تفاصيل قصة طلاقها عن المسار الدرامى، لكى تُناسب إصرارها المبدئى منذ طفولتها، وهى تتكلم بغيبية عن الحياة التى تتمناها قائلة "لن يكون ثمة أمير، سيكون قصرى بلا أمير". إنها فكرة ساذجة بما فيه الكفاية، توحي بأن وجود الحبيب فى حياة المرأة - حتى وإن كان تواجدا محسوبا وصحيحا - ما هو إلا مُعطِل بالغ الفاعلية.

اختيار "ميمى" لتكون الراوي حتى بعد موتها، النِكات البسيطة المحبوكة على هوامش الدراما الرئيسية (مثل قصة حب والدة جوى والسباك)، كل هذه مفردات قيمة اختلقها السيناريو، لكنها بالطبع لم تُبيض وجهه أبدا، وتغفر له زلاته الموازية فى مواضع أخرى.

 


آخر كلمتين

"Jennifer Lawrence" تمتلك سحرها الخاص، هى الوجه الطفولى العنيد الوحيد الذى يجيد التعبير عن كل هذه المتناقضات بين الهزيمة والإرادة، الوجع والجرأة، الطيبة والتنّمر. ولكن هذا لا يعد سببا وجيها لترشيحها للأوسكار عن الدور كأفضل ممثلة، لأن ثمة أداءات تفوقها قدرة بالتأكيد.

 

 

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

"goodnight mommy"..أن لا تُبصِر بينما ترى

_نُشِر فى مجلة الثقافة الجديدة_ فى فيلم antichrist للمخرج "لارس فون ترير"، تبلغ البطلة الطور الكامل لنوبتها الإكتئابية، فيحل الوهم محل دماغها، ويوعز له بكل المُنكَرات، المُهلِكات، وفظائع الجُرم. تتحول تلك السيدة الرقيقة، واهنة الهيئة والقدرة إلى سفاحة متوحشة. يقودها الوهم إلى التمثيل بجسد من تحب، لتكن على يقين من أنه لن يُفارقها. تعتقد، وتمتطى إعتقادها إلى حتفها بنفس طيّعة. فما إن خَرِبَت رأسها، انتفت هويتها وضُلِلِ هواها. الوهم قتلها، وأمات الحب فيها وفيمن حولها. وفى حياة أخرى، موازية لحياة هذه البطلة المكتوبة فى سطور فيلم، شاهدتُ رجلا يحرص فى سيره، على أن يتحسس فى كل خطوة من خطاه الأرض من تحته. يومها، كنت برفقة زميل طبيب، وحينما رآنى وقد استغرقنى التحديق فى الرجل بإندهاش، أفادنى بأنها   إحدى أشكال حالة مرضية عقلية، تعرف بإسم" catatonia "، يتهيأ فيها للمريض أنه قد يفقد الأرض، لذا فهو يطمئن دوما لوجودها من تحته بتملسها كلما يُحرك قدما. وهماً آخر يدفع الحالات المتأخرة من نفس المرض، لأن تدّب فى مشيتها، ليسعها التأكد من وجود الأرض تحتها. الوهم أقصر الطر...

أضواء المدينة..الفيلم الذى يُضحِكك وإن ضَحك عليك

_نٌشر فى مجلة أبيض وأسود_ فى فيلم dangerous method 2011 يتبادل البطلان مناقشة شديدة الإيجاز حول مفهوم السعادة. فيقول أولهم: "السرور ليس بسيطا أبدا كما تعرفه أنت". فيبادره الآخر: "بل إنه كذلك، إلى أن نقر نحن بتعقيده". فيلم أضواء المدينة عام 1972 إخراج فطين عبد الوهاب وتأليف على الزرقانى، من الأفلام التى تؤيد الشِق الأخير من المناقشة، من الأفلام التى تمنح السعادة خيارا حقيقيا تطِل من خلاله ببساطة، ومن دون تكلف، أو محاولة زائفة للتحذلق والفلسفة المُدّعية. إنه الفيلم الذى ما إن تُعيد مشاهدته، تبتسم من مجرد ظهور تتراته، تستحضر معها روحه الخفيفة الطافية، وخيالات تلك الضحكات الماضية التى سبق وأن أغدق عليك بها.  تزورك لحظات البهجة التى خلقها خصيصا لك، وليس نظيرتها التى انخلقت فى مواقف مشابهة مع أفلام أخرى وفقا لظروف معينة، ملائمة لصناعة البهجة. أضواء المدينة هو الفيلم الذى يُضحكك ببساطة وإن ضحك عليك. سيناريو الحدوتة تبدو تقليدية، اعتدناها من السينما المصرية فى وقت سابق، ولاحق أيضا. ولكن ما ابتدعه السيناريو هنا، ابتكار مدخلا مختلفا آمنا، يسعه مجاراة دراما ...

"قنديل أم هاشم" .. مفهوم غير آمن للإيمان

_نُشر فى مجلة الثقافة الجديدة_ فى فيلم the skeleton key تظل البطلة تردد بهيستيرية " أنا لا أؤمن، أنا لا أؤمن، أنا لا أؤمن" ولكن صوت داخلها يجهر بنقيض ما تصرخ به تماما، إنها تؤمن بالفعل، تؤمن أن السيدة العجوز التى تمارس عليها إحدى تعاويذها، ستتمكن من أذيتها فى آخر الأمر. تؤمن بالسحر الأسود، الذى لا يمكن أن تطال يده أحدا إلا إن كان مؤمن بوجوده وأفاعيله. و"يحى حقى" فى رواية قنديل أم هاشم تطرق لمفهوم الإيمان، خاض فى جانب غير آمن منه، جانب يبعث على الحيرة، ويشير إلى وجه آخر من وجوهه الداعية إلى القلق. فـ "الإيمان" كلمة ما إن ذُكِرت فى أى تراث، يحضر معها شرطيا شعور الراحة والسلام. ولكن الحقيقة ليست مثالية إلى هذا الحد، فـ "الإيمان" أحيانا قد يكون نقمة، قد يكون كُفرا موازيا بما يجب أن نؤمن به. فبطلة the skeleton key فى واقع الأمر لم تؤمن بالسحر، بقدر ما فقدت إيمانها بالرب. ومن هذه النقطة سيبدأ كلامنا عن فيلم "قنديل أم هاشم".. الفيلم الذى أعد السيناريو له "صبرى موسى"، ليطل على شاشة السينما بكل هذه التعقيدات الفكرية ال...