التخطي إلى المحتوى الرئيسي

Bridge of spies ... ملحمية كلاسيكية حديثة

_نُشر فى الجزيرة الوثائقية_


ثمة مهابة لأفلام الإنتاج القديم، دسامة لا تقوى على مجاراتها السينما الحديثة، مهما بلغت ذروة جودتها، ورنة ألقاب صانعيها. أجواء بعينها تستدعى حنينا خاصا، وشغفا يدفعك ليلة ما إلى إعادة مشاهدة فيلم منزوع الألوان، مُعنوّن بتاريخ عتيق.
فيلم Bridge Of Spies 2015 يملك هذا السحر، ما إن تبدأ مشاهدته حتى تنجر إلى هذا العالم الذى كان، مأخوذا بنكهة كلاسيكية خفية ومُحرِّضة. والحقيقة أن الأمر لا يرجع سببه إلى نوع الحقبة التى يخوض الفيلم أحداثها، وإنما يرجع إلى بصمته القوية، هالته المُلهِمة التى تلاحمت كافة مجهودات صانعيه لكى تبلغ بها هذه الصورة، وتتمها على تلك الحالة التى تغازل الماضى سواء على مستوى الامتياز، أو المزاجية.
فيلم Steven Spielberg الأخير رائع بما فيه الكفاية، يحمل كل ما يمكن أن تنطوى عليه جعبة الفيلم الذى يستحق أن يعلق بذاكرتك إلى الأبد، تلمح شخصياته يمرقون بين الحين والآخر على واقعك، ولسانك يُردد دوما مقتطفات بذاتها من حواره.
 
قضية مسيسة إنسانيا
إنها الحرب الباردة بين الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفيتى، وقتما انتشر الجواسيس على ضفتى الدولتين سرا، كل منهم يعمل لصالح حكومته فى صمت لعدد من السنوات غير معلومة الأمد، يجمع ما فى وسعه من معلومات ويرسلها إلى مرؤوسيه، وحينما تُكشف حيلته تتنصل دولته منه رسميا، حتى وإن مارست عددا من الألاعيب لاستعادته، حرصا منها على سلامة المعلومات التى يملكها، لا بدافع الحفاظ على أمنه هو شخصيا.
 
وفى خضم هذا الهزل السياسى المعهود، تم القبض على جاسوس روسى يدعى  Rudolf Abel "Mark Raylance". ولأن الحكومة الأمريكية، لم تشأ إثارة الأقاويل حول محاكمتها له، فاستدعت أحد المحامين الكبار James B.Donovan "Tom Hanks" للدفاع عنه، كستار شكلى لا يحول بينه وبين الإعدام، وإنما يضفى مزيدا من المشروعية على كافة الخطوات القانونية التى اتخذتها حياله.
 
إذن نحن أمام قضية سياسية بحتة، تنطوى على تكثيف دسم لفترة ملتبسة من تاريخ هذه الحرب، لها مصطلحاتها، تشعباتها، وأبعادها التى قد تتعلق بملفات أخرى مثل "ألمانيا الشرقية" مثلا. وبالرغم من هذا، لن يشعر المتفرج ولو لحظة أن سيناريو الفيلم يتحدث فى منطقة بعيدة عن اهتماماته الشعورية والفكرية الحياتية، فالأخوان "Ethan Coen  " و"Joel Coen" ومعهما "Matt Charman" أعّدوا سيناريو ذكيا، لم يبتعد أبدا عن الصلب السياسى للحبكة، وإنما ربطها بتفاصيل إنسانية ملفتة للانتباه.
 


صحيح أن Donovan حينما قرر أن يترافع عن Abel كان نزيها، مثاليا، لا يأبه بغرض حكومته فى قتل Abel على أية حال، ولم يصغ لكل من أنبوه، هددوه، واحتقروه لأنه يدافع عن جاسوس كان يعمل ضد مصلحة بلده، فى سبيل إيمانه بأن Abel مواطن صالح لم يخطئ، بينما أدى واجبه تجاه وطنه على أكمل وجه، ومن حقه أن يُلاقى مصيرا أفضل من الموت. وأن هذه الخيالات كفيلة بأن تجبر السيناريو على التفرد فى خلق خط إنساني متفرد، ولكن السيناريو استزاد إلى أبعد من ذلك، وبنى منظومة آدمية منتعشة، صبت فى مصلحة الوقائع السياسية المسرودة فى الفيلم، وأكدت على معنى طالما نادى به الفلاسفة قبلا، زاعمين بأن السر الخفى للسياسة يكمن فى إنسانيتها، وأنه كلما نزع البشر فى الاستقلال بها عن سمات الإنسان فيهم، سيأخذ العالم طريقا أسرع للدرك الأسفل من الجحيم.
 
كتابة ثرية
هذا السيناريو له عدد من الوجوه الجمالية، سواء على مستوى السرد، الشخصيات، صياغة العلاقات. وفى السطور القادمة، سنتحدث تفصيلا عن كل هذه الأدوات التى طوعها السيناريو، لتُعبر عن طبيعة الموضوع الذى تطوع لتناوله.
 
لاشك أن شخصية Donovan شخصية استثنائية فى أصلها، وهذا ما سعت تفاصيل السيناريو لتشير إليه، منهمكة فى تبيان كافة الخصال التى يُمكن أن يتوقعها أحدهم، عن هذا الرجل الذى قرر أن يخوض حربا ضد المنطق فى سبيل انحيازه إلى فكرته المنصفة. ففى أول مشهد يطل فيه Donovan نراه يجلس على طاولة مفاوضات صغيرة، مع أحد محامي خصومه، فى قضية مستقلة عن قضية Abel، حينها يمكننا أن نرى مدى تشبث Donovan بألفاظ معينة حتى وهو بعيد عن المحكمة، ويسعنا ملاحظة سرعة بديهته فى الأخذ والرد، ومنهجه الخاص فى التعاطى مع الحقائق. 
 
إنه مشهد استهلالى مبتكر، يختزل الكثير من مسافات الحكى عن الشخصية التى بصدد أن تلتف حولها الأحداث فيما بعد. مشهد آخر، تتكرر فيه الدلالة إلى ذكاء Donovan وقدرته على المراوغة، والإفحام، وهو المشهد الذى يطلب فيه مبعوث الـ CIA معلومات منه عن موكله، ومعرفة ما إذا كان Abel قد وشى بأى شىء فيما يخص الأسرار التى يحتكم عليها، فنرى Donovan أمينا، لا يهاب سلطة جهاز استخبارات حكومته، عنيدا وهو يعى بالضبط ما يمكن أن يودى به هذا العناد. المشهدان السابقان، يستوضحان الصفات التى لابد أن تكون موجودة فى شخصية مقاتلة مثل شخصية Donovan ، شخصية حرصت على أن تحافظ على نزعتها الإنسانية حتى وهى فى ملعب السياسة. 
 
ولكن السيناريو لم يكتف بهذا القدر فى تجسيد شخصية Donovan، بينما استدرك فى استحضار بعض مناطق تكوينه الشعورى بشكل مؤثر، وومضات بسيطة. فعندما يسافر Donovan إلى ألمانيا الشرقية لإتمام صفقة تبادل الأسرى (صفقة اتفقت فيها الحكومة الأمريكية مع الروس ليسلموا لهم Abel مقابل أسير أمريكى يدعى gary Powers)  يحاول الروس مخادعته، بحيث يستميتون مرارا فى إقناعه بأن يتم تسليم Abel مقابل أسير أمريكى آخر أقل أهمية من Powers، بينما على الصعيد الموازى، تظل الحكومة الأمريكية تؤكد على Donovan بأن Powers هو جل اهتماماتهم، وأن الصفقة لا يمكن أن تتم من دونه، وأما بخصوص هذا الأسير الآخر، فإنهم سيهتمون لشأنه فيما بعد. يقف Donovan حينها، متأملا، يسأل الجميع عن هذا الأسير المزعوم الذى يستمع إلى اسمه ولا يعرف عنه شيئأ، يتنامى إلى علمه فيما بعد أنه طالب، فيكون أول ما يلتمسه من المُفاوِض الذى يتحدث إليه بخصوص الموضوع أن يرى صورة لهذا الطالب الأمريكى البائس، الذى لن تهتم به أى حكومة من الحكومتين لمجرد أن رأسه فارغ من المعلومات المهمة التى قد تفيد حربهم الباردة، يتناول Donovan صورة الشاب ومن ثم يبتسم ابتسامة أب، ويقضى كافة مجهوداته لكى يُسلم Abel فى مقابل الحصول على الأسيرين معا، لأن كليهما إنسان.
 
 نعم، الواقعة التاريخية تؤكد على هذا الإصرار الذى أبداه Donovan لدرجة كانت من الممكن أن تلغى الصفقة من الأساس، ولكن الواقعة التاريخية مهما بلغت جودة توثيقها، لن تجسد فى مخيلتك ذلك الشعور القَلِق الذى سربه إلينا السيناريو ليحاكى به ما وقع فى نفس Donovan وقتما وصل إلى ألمانيا، وعلم عن هذا الأسير المسكين المهدر حقه. لن تنبش وراء هذه اللفتات الحية بخصوص المسئولية الأبوية التى واتته تجاه هذا الشاب، ليس بما يلائم طبيعته المناضلة وكفى، وإنما أيضا بما يجارى ما فى قلبه بالفطرة من رحمة ونزاهة. فالواقعة التاريخية، لن تقرب لنا تصورا عن دموع Donovan وذهوله حينما شاهد بأم عينه مقتل حفنة من الشباب كانوا يحاولون تخطى الجدار العازل فى ألمانيا. ولن تجيد التعبير عن مهابته وهو يملى على سكرتير مُفاوِضه، تهدايداته الحاسمة بضرورة حصول الحكومة الأمريكية على الأسيرين وإلا لا داعى لأن تكون هناك صفقة من الأساس. سيناريو الفيلم، أبدع فى رسم شخصية Donovan بكل تناقضاتها، نموذجيتها، وإلهامها.
 

 
وإن أمعنا النظر فى تكنيك القطع المتوازى، ما بين سرد وقائع Abel  بداية من القبض عليه وحتى مراحل محاكمته، وبين الملابسات التى قادت الطيار الأمريكى Powers إلى الوقوع بين يدى الروس. سنجد أن السيناريو استحدث الكثير من الأساليب التى تخصه فى التعامل مع هذا الشكل من السرد. فنراه يبدأ حدوتة Powers بدون سابق إنذار، مقحما إياها فى السرد بلا أى تمهيد، ليحياها المتفرج بدقة ومعايشة تجعله يطلع على ما فيها من اتهامات خفية للحكومات عموما، فيضعنا السيناريو فى الموقف من وجهة نظر هذا الطيار، الذى يجد نفسه فجأة قد أصبح عميلا سريا، مبعوثا فى مهمة جوية لا يجب فيها أن يحرص على حياته، وإنما ينذر نفسه كالكفيف للموت إن شعر باقتراب يد الروس إليه. فالحكى بهذه الطريقة يبدو وكأنه يعوض التفاصيل الغائبة فى حكاية Abel ، فحتى وإن اختلفت قوانين احتقار ثمن الروح فى مقابل إعلاء شأن الوطن، سيظل المبدأ واحدا (أنت لاشىء إن وقعت فى يد العدو، والمعلومة التى فى رأسك تساوى أضعافك). يمكننا إضافة إلى ذلك، أن نتتبع اختيارات مواضع النقل بين خطى السرد، لأنها مثيرة للإعجاب وبشدة. فمثلا، أول مشهد تطل فيه حكاية power سنجده بعد جملة يقولها Abel  لـDonovan حينما صارح الأخير الأول بأنه لن يستطيع أن يجلب له أدوات لممارسة الرسم، فيقول Abel "سيد دونوفان، بالطبع يوجد الكثير من الأسرى الأمريكان الذين فى مثل موقفى بين يدى الروس الآن، ولابد أنك تتمنى لهم معاملة لا تسىء إليهم". وكما كان التناغم فى عملية القطع الموازى بين الخط الدرامى الذى يخص Abel ونظيره الذى ينتمى لPowers ، جاءت نقلات وسطية ذكية، لا علاقة لها بالخطين، فمثلا فى قاعة محاكمة Abel يطلب القاضى من الجميع النهوض، فتنتقل اللقطة بشكل مباغت على مجموعة من الأطفال الذين ينهضون لتحية العلم الأمريكى فى مدرستهم، ومن ثم تتوالى اللقطات التى تبين السياسة الإرهابية التى كان يبثها نظام التعليم الأمريكى داخل نفوس النشأ فى هذا التوقيت، مُحدثين إياهم عن تأثير القنبلة النووية، وتربص العدو الروسى بأرضهم الطيبة. فحتى هوامش السيناريو، لم تتورع عن ربط كل هذه السلوكيات ببعضها البعض، لأنها فى الحقيقة تؤدى فى جميعها إلى حلقة واحدة، بغض النظر عن أى جنسية أو حكومة أو هوية.
 
ثمة حالة أنيقة من التشابك فى هذا السيناريو، عادة ما نراها فى صورة أخف وطأة من التى تقابلنا هنا، ففى هذا الفيلم، نادرا ما يمكننا أن نتجاوز شيئا قد قيل أو فعِل دون العودة إليه. فمثلا فى مشاهد البداية نجد Donovan يدخل إلى المكتب مع شركائه لتغلق خلفهم السكرتيرة الباب بإيحاء مُلفت، وفى اللاحق حينما يُصمم Donovan على موقفه فى الدفاع عن Abel بشرف، ومن دون مواربة فى الحق، ومع نظرة الجميع له بالدونية، يأتى مشهد يقف فيه Donovan قرب باب الاجتماعات، لتأتى السكرتيرة وتغلقه بنفس طريقتها التى كانت، ولكن فى وجهه هذه المرة. فى موقف آخر، نرى سيدة تبعث بنظرات احتقار إلى Donovan فى عربة القطار باعتباره المحامى الخائن الذى يدافع باستماتة عن الجاسوس الروسى، ولكن فى نهاية الفيلم نراها تعود لتحييه بعينيها لأنه البطل الذى أتم عملية تبادل الأسرى فى ألمانيا الشرقية. نفس التكنيك يتكرر، حينما تنطفئ ابتسامة من فوق وجه Donovan، فى أول يوم عمل بعد عودته من صفقة تبادل الأسرى، لمجرد أنه شاهد من عربة القطار مجموعة أطفال يعبرون جدار حديقة جيرانهم، لأنه استعاد رغما عنه حادثة مقتل الشباب أمام الجدار العازل فى ألمانيا.
 
  فمعظم الأشياء فى هذا السيناريو سُردَت لكى نتذكرها. امتد هذا الأمر للحوار، فنجد كثير من جُمل الحوار، قد أعيد استخدامها، مثلا لقب counselor الذى نادى به القاضى Donovan ومن ثم عاد رجل الCIA ليناديه به من جديد، وكأن جميعهم يرونه بعين واحدة لا تلائمه، ليأتى هو بعدها ويعبر عن بغضه لهذا اللقب. كذلك، سؤال Donovan المتكرر ل Abel أثناء تعقيدات محاكمته الغير مطمئنة، "ألا تقلق أبدا؟!" ليجاوبه Abel " وهل هذا سيساعد فى شىء"، لدرجة قد جعلت من السؤال ذاته إفيها فى بعض الأوقات، وفى أوقات أخرى ساهم فى بناء تفصيلة تراكمية قوية فيما يخص العلاقة بين Donovan  وAbel . مصطلح "استويكى موجيك" الذى حكى Abel عنه لـDonovan ، حينما تذكر الرجل الضيف الذى كان يأتى لبيتهم وهو طفل، ذاك الرجل الذى صمد أمام ضربات جنود قد تهجموا يوما عليهم، حتى زهدوا التعدى عليه وهم ينعتوه بجملة من لغتهم لم يفهمها فى صغره، ولكنها ظلت عالقة فى ذهنه "استويكى موجيك" فيما معناه الرجل الذى لا يُهزم، وفى مشهد النهاية، وحينما وقف Donovan عازما ألا يتحرك نصف سنتيم ليتمم الصفقة من دون الحصول على الأسير الطالب، نطق Abel فى حماس ليدعمه "استويكى موجيك".
لن تجد أجمل من مشهد الافتتاحية ليدلك على مواطن جمال السيناريو، فهذا المشهد ملحمى لدرجة قد تجعلك تعيد مشاهدته مرات ومرات، كما أنه يُلخص بإيجاز خصوصية هذا السيناريو، وخطاه الواضحة العذبة والحادة الوقع لأمد بعيد فى رواية الحدث.
 
Spielberg اليقظ
أسهب المخرج Steven Spielberg فى تضمين الصورة بعضا من الرمزية الخفية، التى تواكب المعنى الذى يسعى إليه السيناريو فى أكثر من مرة. ففى مشهد ذهاب Donovan إلى بيت القاضى، محاولا إقناعه بالاستغناء عن عقوبة إعدام Abel، نرى القاضى يقف لينصت وهو يربط ربطة عنقه فى البداية أمام مرآه غائمة وَسِخة، لا تتضح فيها الرؤية أبدا، وحينما يُبدى بعض اهتمام لما يقوله Donovan يتحرك ليقف أمام مرآه أخرى، أصغر ولكنها أنقى قليلا مما مضت، ومع نهاية كلمات Donovan و الشعور بالأثر المحسوس لها على حسابات القاضى، نجده ينتقل ليقف قبالة مرآة كبيرة لامعة تتبين فيها الصورة بدقة.
 

 

 وفى مشهد كان كل من Donovan وAbel يتحدثان حول خطاب مريب، تم إرساله باسم زوجة Abel ، قبيل سفر Donovan لإجراء المفاوضات، يلتقط Spielberg الاثنين فى كادر بعيد للغاية، والفراغ يحيط بكل منهما ملحوظا، وموحيا بوحدتهما فى جبهة منافية تماما لأغراض حكوماتهما.
 

 
كادر آخر فى غاية الخباثة، يُجسد فيه spielperg مدى تباعد كل من Donovan ووكالة الاستخبارات الأمريكية، رغم أن الظاهر يحكم بأنهما يسعيان لنفس الغرض، فيبدو Donovan فى أحد الاجتماعات، جالسا فى آخر يسار الكادر، والمسئول الذى يتحدث معه قاعدا فى آخر يمين الكادر، وفى المنتصف يظهر الرجل مُساعد المسئول، تأتى الصورة من خلف ظهره، الذى يشق الصورة لشطرين متنافرين تماما، ليظهر Donovan فى ضفة، والمسئول فى ضفة أخرى.
 

 
دلالة مرئية قاسية أخرى، تجتهد لرسم صورة البؤس الذى كانت تمر به ألمانيا الشرقية، ظهرت فى تتبع كاميرا Spielberg كلبا جائعا، يُشمشم فى الأرض، فى أول المشهد الذى يتعرض به Donovan للسطو، بينما كان فى طريقه ليعقد المفاوضات، ليقول له مبعوث المفاوضات بعدها بمشهد "معطفك لابد وأن يُسرق يا سيد دونوفان، طالما كان ثمينا".
 
Spielberg لم يستخدم الموسيقى إلا بعد فوات ربع الفيلم تقريبا، فى وعى وتفهم منه بطبيعة مشهد الافتتاحية وما بعده. كما أنه كان مُبهرا على كل المستويات فى تنفيذ مشهد سقوط طائرة Powers . وهو من أجاد الربط مرئيا، وجانبا إلى جنب مع خطة السيناريو فى الانتقال الملائم بين حكاية Powers وAbel ، فمثلا طريقته فى الربط البصرى بين سقوط مروحية Powers، والعودة على مروحة Abel الصغيرة التى يضعها إلى جانبه وقتما يمارس الرسم. ويمكننا أن نلاحظ، كيف قام بتقطيع مشهد انتظار الجميع رد موسكو حول إتمام الصفقة بالأسيرين الأمريكين معا، بحيث ملأه شغفا وتوجسا يليق بمهابة الموقف.
 
آخر كلمتين
_ لم تنل جدية القضية المطروحة، من مسحة خفة الدم التى تتواجد دوما فى كتابات الأخوين Coen ، فنرى Donovan فى بداية الفيلم، يُعنف مُساعِده بالمكتب بنظرة مُحرضة على الإذعان، حينما يعتذر الأول عن العمل لأن لديه موعدا غراميا، ومن ثم حينما يتنحنح الفتى مؤكدا أنه تناسى أن موعده فى يوم آخر، وبعدها نجد Donovan يضحك منه بعد مُضيه. هذا إلى جانب المشهد الساخر الذى يختبئ فيه Donovan من مُطارِده خلف إحدى السيارات، وهو ينظر محتميا وراءها على خط مسار هذا المُتبِع ومن ثم يجده خلفه، فيُفزع بهزلية.

_ Mark Rylance ممثل نابغ، من هؤلاء الذين لا يبذلون مجهودا فى أن يكونوا عظماء، فقط ينسابون بتلقائية، ويملأون فراغات الدور الذى يلعبونه، حتى يطفو الدور نفسه على وجه حضورهم وكريزماتهم. إنه يستحق جائزة أفضل دور مساعد وبجدارة. أما Tom Hanks فهو كعادته، فى مكانة لا تأبه بالجوائز، هو فى حد ذاته جائزة ينتظرها المشاهد بتوق وشبق.



لينك المقال على موقع الجزيرة الوثائقية:
http://doc.aljazeera.net/cinema/2016/02/2016229133056437513.html

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

"goodnight mommy"..أن لا تُبصِر بينما ترى

_نُشِر فى مجلة الثقافة الجديدة_ فى فيلم antichrist للمخرج "لارس فون ترير"، تبلغ البطلة الطور الكامل لنوبتها الإكتئابية، فيحل الوهم محل دماغها، ويوعز له بكل المُنكَرات، المُهلِكات، وفظائع الجُرم. تتحول تلك السيدة الرقيقة، واهنة الهيئة والقدرة إلى سفاحة متوحشة. يقودها الوهم إلى التمثيل بجسد من تحب، لتكن على يقين من أنه لن يُفارقها. تعتقد، وتمتطى إعتقادها إلى حتفها بنفس طيّعة. فما إن خَرِبَت رأسها، انتفت هويتها وضُلِلِ هواها. الوهم قتلها، وأمات الحب فيها وفيمن حولها. وفى حياة أخرى، موازية لحياة هذه البطلة المكتوبة فى سطور فيلم، شاهدتُ رجلا يحرص فى سيره، على أن يتحسس فى كل خطوة من خطاه الأرض من تحته. يومها، كنت برفقة زميل طبيب، وحينما رآنى وقد استغرقنى التحديق فى الرجل بإندهاش، أفادنى بأنها   إحدى أشكال حالة مرضية عقلية، تعرف بإسم" catatonia "، يتهيأ فيها للمريض أنه قد يفقد الأرض، لذا فهو يطمئن دوما لوجودها من تحته بتملسها كلما يُحرك قدما. وهماً آخر يدفع الحالات المتأخرة من نفس المرض، لأن تدّب فى مشيتها، ليسعها التأكد من وجود الأرض تحتها. الوهم أقصر الطر...

أضواء المدينة..الفيلم الذى يُضحِكك وإن ضَحك عليك

_نٌشر فى مجلة أبيض وأسود_ فى فيلم dangerous method 2011 يتبادل البطلان مناقشة شديدة الإيجاز حول مفهوم السعادة. فيقول أولهم: "السرور ليس بسيطا أبدا كما تعرفه أنت". فيبادره الآخر: "بل إنه كذلك، إلى أن نقر نحن بتعقيده". فيلم أضواء المدينة عام 1972 إخراج فطين عبد الوهاب وتأليف على الزرقانى، من الأفلام التى تؤيد الشِق الأخير من المناقشة، من الأفلام التى تمنح السعادة خيارا حقيقيا تطِل من خلاله ببساطة، ومن دون تكلف، أو محاولة زائفة للتحذلق والفلسفة المُدّعية. إنه الفيلم الذى ما إن تُعيد مشاهدته، تبتسم من مجرد ظهور تتراته، تستحضر معها روحه الخفيفة الطافية، وخيالات تلك الضحكات الماضية التى سبق وأن أغدق عليك بها.  تزورك لحظات البهجة التى خلقها خصيصا لك، وليس نظيرتها التى انخلقت فى مواقف مشابهة مع أفلام أخرى وفقا لظروف معينة، ملائمة لصناعة البهجة. أضواء المدينة هو الفيلم الذى يُضحكك ببساطة وإن ضحك عليك. سيناريو الحدوتة تبدو تقليدية، اعتدناها من السينما المصرية فى وقت سابق، ولاحق أيضا. ولكن ما ابتدعه السيناريو هنا، ابتكار مدخلا مختلفا آمنا، يسعه مجاراة دراما ...

"قنديل أم هاشم" .. مفهوم غير آمن للإيمان

_نُشر فى مجلة الثقافة الجديدة_ فى فيلم the skeleton key تظل البطلة تردد بهيستيرية " أنا لا أؤمن، أنا لا أؤمن، أنا لا أؤمن" ولكن صوت داخلها يجهر بنقيض ما تصرخ به تماما، إنها تؤمن بالفعل، تؤمن أن السيدة العجوز التى تمارس عليها إحدى تعاويذها، ستتمكن من أذيتها فى آخر الأمر. تؤمن بالسحر الأسود، الذى لا يمكن أن تطال يده أحدا إلا إن كان مؤمن بوجوده وأفاعيله. و"يحى حقى" فى رواية قنديل أم هاشم تطرق لمفهوم الإيمان، خاض فى جانب غير آمن منه، جانب يبعث على الحيرة، ويشير إلى وجه آخر من وجوهه الداعية إلى القلق. فـ "الإيمان" كلمة ما إن ذُكِرت فى أى تراث، يحضر معها شرطيا شعور الراحة والسلام. ولكن الحقيقة ليست مثالية إلى هذا الحد، فـ "الإيمان" أحيانا قد يكون نقمة، قد يكون كُفرا موازيا بما يجب أن نؤمن به. فبطلة the skeleton key فى واقع الأمر لم تؤمن بالسحر، بقدر ما فقدت إيمانها بالرب. ومن هذه النقطة سيبدأ كلامنا عن فيلم "قنديل أم هاشم".. الفيلم الذى أعد السيناريو له "صبرى موسى"، ليطل على شاشة السينما بكل هذه التعقيدات الفكرية ال...