_نُشِر فى مجلة سينماتوغراف_
المتعة عامل حتمى فى عملية تقييم أى فيلم، بل هى فعل لا شعورى، يحدث قبل الشروع فى عملية إبداء الرأى. وكلما تمكن الفيلم الذى تشاهده من إلهائك عن مراجعته بعقلك، كلما أسهم ذلك فى إعلاء درجات تميزه فى دفتر ملاحظاتك، وبالتالى حفظ مكانته فى خانة الجيد، على الأقل بالنسبة لك وحدك. إذا فالمتعة حق من حقوق المتفرج، وغاية من الغايات التى وُجدَت من أجلها السينما.
ولكن أية متعة؟ هذا هو السؤال؟
كُلنا يعى أن المُواد المخدرة لها مردود يراه البعض ممتعا، ولكننا فى الوقت ذاته نتبادل الحذر منها. فبخلاف كون متعتها وقتية، فهى ليست جديرة بالثقة، متعة تميل للخذل، تفقد مفعولها بمجرد أن يعتادها الجسد، وتصب عليه سمومها إن لم يزهد عنها بعد أمد.
وعندما نتوقف أمام فيلم «أهواك»، سنكتشف أن له مفعول المخدرات، لأنه لن ينكر أحد أنه قد استمتع بمشاهدته، ولكن المعضلة الحقيقية تكمن فى عدم القدرة على نبذه تماما، أو قبوله للنهاية. وأنت تتعاطى هذا الفيلم، تشعر أنك بصدد تناول كمية مُهلكة من المُغيبات، تنتشى بها، ولكن حتى وأنت على حافة الذروة فإن شيئا منك سيصبح وضيعا ، بل ويستوضعك أنت ذاتك لمجاراتها.
حسنا، كلمات الفقرات السابقة هجومية بضراوة،
دعونا نتمهل ونتأمل قليلا. إن سألت أحد صناع فيلم «أهواك» عن تصنيفه، سيجاوبك بكل بساطة
أنه رومانسى كوميدى، أو لن يهتم من الأساس، وسيقوم فى حنق بالنفخ فى وجهك قائلا «هو
أى حاجة يا سيدى، المهم إنه عجب الناس، إطلع إنت منها». فى حالات معينة أؤيد بشدة نظرية
«إطلع إنت منها»، ولكن الأمر هنا يختلف، ويتطلب بعض التفكر، والتدخل القلمى. لأن هذا
الفيلم لم يحمل من الرومانسية ولو ملمحا طفيفا، ولا يدنو من منطقة الكوميديا بجدية.
هو مولود فنى آخر، مكتوب بإسم تامر حسنى، جنين لم تُحدد هويته جنسيا، لا نعلم إن كان
ذكرا أو أنثى. والأولى ب “تامر” أن يحتفل الآن بصدور النسخة الرابعة من إوفيهاته المُعلبة.
التى سبق وقام ببطولة أجزاء ثلاثة منها بإسم «عمر وسلمى». فالكوميديا الرومانسية، لابد
وأن تقوم فى الأساس على خطة فيلمية، بينما فيلم تامر لم يكن سوى نية مبيتة لإستكمال
مسيرته الهامة فى استعراض خفة ظله، ومفارقاته الفارغة، التى يتم طبخها جيدا فى كل مشهد،
لكى تُقدم للمتفرج استعاضة عن هشاشة الكتابة، والتأسيس الأصلى للحوار، الشخصيات، والمواقف ذاتها.
الحدوتة
أولا، يبدو أن مخرج ومؤلف فيلم «أهواك» محمد سامى، متأثر وبشدة بسينما الأمريكية «نانسى مايرز» حيث أنه فى فيلمه، استعان بحبكة فيلمين دفعة واحدة ، أولهما فيلم some thing’s gotta give، وهو ما استمد منه خيالات حب شاب لإمرأة تكبره سنا، إلى جانب وجود رجل آخر أكبر سنا سيقاسمه تسابقه عليها، فضلا عن المأزق الدرامى الذى سيجعل هذه السيدة متواجدة فى مكان واحد مع أحدهما . ومع بعض التغييرات وتبادل الأماكن استطاع سامى، أن يعبث فى القصة لصالح تمديد دور تامر، ودفعه إلى المقدمة، إلى جانب إضافة بعض الشخصيات والخطوط الدرامية الموازية. ولكنه لم يغفل أيضا عن الاستفادة بحبكة الفيلم الثانى لمايرز its complicated، آخذا منها خيالات الطليق اللعوب، الذى يراود زوجته السابقة عن نفسها، مربكا إياها، ليضعها على المحك فى علاقتها الجديدة مع رجل يستحق اهتمامها.
لن أستغرق فى النقطة السابقة، لأن الواقع بات يلزمنا بتجاهلها، وما فعله سامى نقطة فى بحر مما يحدث حاليا، ومن غير المنصف أن نقولب مشاكل الفيلم كلها عند هذه الخانة.
ثانيا، اجتهد سامى فى رسم أبعاد مختلفة لدراما فيلمه، فخطة سيناريو الفيلم على الرغم من كل شىء مقبولة، ومتماسكة. ولكن الكارثة حدثت أثناء التنفيذ، وما إن أطل تامر بمنهجه المزعج فى الإضحاك، أصبحت تحركات الدراما، مجرد تحركات ميكانيكية، تحدث فقط، بغير أن نشعر بها، ودون أن تمسنا فعليا. مثلا، شريف «تامر حسنى» أحب رنا «غادة عادل» كيف أحبها، على أى أساس، متى من الأصل وقع هذا الفعل. مثال آخر، يغنى تامر أغنية رومانسية يشكو فيها بُعده عن رنا قائلا «من يوم شمسه ما غابت، وعينى ما شافت نوم». وفى الحقيقة، أنه طوال فترة وجودهما معا، لم نشعر بلحظة حب جدية وحقيقية بينهما، فما حدث هو أننا ضحكنا، وضحكنا، وظللنا نضحك وكفى. فلم تشرق هذه الشمس الذى حكى عنها لكى تغيب.
الحوار
مهما أنصّتَ جيدا، فلن تستمع إلى أى حوار فى هذا الفيلم. فأخت شريف «أمل رزق» تخبره فى المشاهد الأولى أنها إنتقت له عروسا صغيرة فى السن، ولم يحو هذا المشهد أى مناقشة جدية سوى هذا الإخطار، ومن قبله إخطار آخر فى مشهد كامل سابق يفيد بأن شريف لن يتزوج إلا عندما يقع فى الحب. علاقة شريف وبسنت تتلخص فى عدة لقطات فتومونتاجية مبهمة، ومن ثم تأتى علاقة شريف برنا لتنحصر هى الأخرى فى لقطات هزلية رخيصة يشربان فيها الحشيش، وأخرى ينبش فيها شريف بـ «عَتَه» فى غرفة رنا باحثا عن اللاشىء، مُحدثا فوضى غير مبررة لإنتزاع بعض الضحكات، وإضاعة بعض الوقت أيضا.
وتتكرر المأساة عندما يخرجان معا فى أول موعد، وهى خطوة من المفترض أن يحسن شريف استغلالها ولكن بدلا من هذا، تجد رنا واقفة على طاولة تحرك مؤخرتها على نغمات أغنية لنانسى عجرم، بينما شريف يجلس إلى جانبها يدق لها على الطبل،وكل شىء ينقلب إلى نكتة، نكتة رديئة الصنع.
شريف يقف مع بسنت على الشاطىء، يحدثها بوقار عن ميكانيزم التشابه والإختلاف بين الحبيبين، ومن ثم يختم حديثه الملفق، والذى لم يدم لدقيقة كاملة ب “أوفيه” سخيف كالعادة. وفى العزائم الهامة التى كان يتعرف فيها شريف على بسنت ووالدتها، تنقلب الجلسة إلى وصلة ردح كاملة، تقوم بهيرة صديقة رنا «إنتصار» فى إحداها برواية قصة طلاقها، وهى القصة التى تُذكرك بحيل ممثلى المسرح الخاص المبتذل، حينما يخرجون عن النص.
الكوميديا
« _إنت جاى تعمل فيلم ولا جاى تهزر؟
_ لا طبعا جاى أهزر»
بعيدا عن مبدأ «القلش»، وافتعال المفردات الرخيصة ،«أشخ» على سبيل المثال، لاستدرار مزيد من الضحكات وفق (النهج التامرى) ، تبقى بعض الملامح الكوميدية الجيدة إلى حد ما والتى تستحق الإشادة بخصوص صياغة الاوفيه بالفيلم، منها ما يخص شخصية أحمد مالك، الشاب المنغلق الواقع تحت سيطرة أمه، والذى يلجأ لتوثيق آلامه عبر كاميرا جهاز اللاب توب الخاص به، يلتزم بلبس البرنُس القصير وفقا لتعليمات والدته، ويطلق لعناته من وقت لآخر على أسرته بلازمة كلامية تظل معه لوقت طويل. هذا إلى جانب سمات شخصية بهيرة (بعيدا عن استخدامها أحيانا للتعويض عن خانة الحوار) تلك السيدة المطلقة، الساعية وراء الرجال بالرغم من أنها تدعى العكس تماما، والتى كان من الأولى بها أن تستخدم فى مساحتها دون تطاول، كما حدث مع شخصية أحمد.
الشخصيات
شخصية شريف، هى فى الحقيقة شخصية تامر حسنى، لا تُشبه شخصية طبيب التجميل، ولا حتى الطبيب البيطرى، النظارة التى يلبسها ما هى إلا اوفيه مفخخ، يستخدمه ليفجر به فى وجوهنا بعض الحركات البهلوانية المتسجدية للضحك. مثل إنكفائه على وجهه فى شاليه الجونة، أو اصطدامه بأشيائه فى بيته حينما حاول السير بدونها. شريف هو عمر والإثنان مجرد حُلة تنكرية للمطرب خفيف الظل تامر حسنى.
شخصية رنا، إمرأة متجهمة طوال الوقت، يتهمها شريف بأنها تهاب الدخول فى علاقات جديدة، وفى كل مرة ترتجف عينيها متأملة كلماته دون رد فتوهمنا بأنها كل شىء، لأنها فى الحقيقة لا شىء، نعرف عنها على لسان الآخرين، بهيرة، شريف، حتى حمزة ، يُلونها السيناريو وفقا لأغراضه، دون أن يدعنا حتى نخمن حولها، لأننا بساطة لا نشعر بوجودها، إلا لتُخَدِّم على وجود الشخصيات الأخرى، حتى وإن كانت هي أهم منهم.
شخصية حمزة «محمود حميدة»، من أجمل شخصيات الفيلم على الإطلاق، ليس فقط بسبب إطلالة حميدة، ولمسته الجلية التى وضعها على دور ضئيل فى فيلم له حساباته الخاصة فى النجاح، ولكن ما برر شخصية حمزة وجعلها مُقنعة وخارجة عن نطاق مهزلة الفيلم، ظهورها المكثف، المقتضب، والذى قد يعِدّه البعض الآن فائدة تعود على تامر حسنى، ولكنها فى الحقيقة فائدة مؤجلة ستحسم فيما بعد لصالح حميدة، فحضوره هنا، مختلف، ولم يقلل فى رأيي من قدره على الإطلاق، بل أعطاه مساحة لكى يستعرض مكانا إضافيا للتلون مخبوءا فى داخله، هذا إلى جانب شجاعته التى تحترم بخصوص أداء الدور من الأساس.
آخر كلمتين
** شاهد فيلم أهواك، اضحك وشىء من الإشمئزاز يعكر صفو ضحكتك، حاول أن تتخطى التجربة، وإن لم تتجاوزها، تذكر أنها نوع من السينما مُحتَمل المشاهدة أكثر من غيره، ولكن هذا لن يزيحه أبدا لخانة أبعد من خانة «سينما المخدرات».
تعليقات
إرسال تعليق