التخطي إلى المحتوى الرئيسي

أحمد مكى وداء الكُفر بالذات ..

_نُشر فى بوابة روزاليوسف_


الأسوأ من انتفاء الموهبة، الكُفر بالذات. لا يكفى أن يكون أحدهم صاحب موهبة، وإنما ما يبقى له مع أقرب أزمة هو إيمانه بها. وأحمد مكى نموذج للفنان الذى يتنصل من موهبته دوما عند أول مطب. لا يؤمن بها بالقدر الكافى، ويتطرف كليا فى التصالح معها، أو مجافاتها. فهو الكوميديان الوحيد تقريبا، الذى يرتفع بأسهم شطحاته خارج نطاق تفكير السوق تارة، بينما يخشع تحت قدم الفكر المتداوَل فى الإضحاك تارة أخرى.


مكى منذ بداية عمله السينمائى إختار أن يقدم فيلم " الحاسة السابعة". الفيلم الذى حتى وإن بقى مكى خلف كادراته كمخرج، يظل متخما لآخره بخِطط إفيهاته، وتكوين مواقفه الهزلية، تحريك شخصياته، وخلق المفارقات الملتبسة لغويا وسرديا بحثا عن الضحكة. فهو ككوميديان عموما يحمل أسلوبا متميزا، ملحوظا، تستطيع التعرف عليه سريعا وبغير جهد. فإن راقبت قوالب صياغة الإفيه فى الحاسة السابعة، اتش دبور، طير انت، لا تراجع ولا استسلام، الكبير. ستجدها متقاربة لدرجة بينة، ولا فارق إن كان مكى خلف الكاميرا أم أمامها، فبوجوده تتأكد لمحات شخصيته الكوميدية، وتفرض ذاتها دون فرد ذراع على كافة عناصر العمل.

يسرد هو ذاته عن إخفاقه فى فيلم "الحاسة السابعة" فى أغنية تحمل نفس الإسم، قد قدمها فى ألبوم الراب "أصله عربى"، والذى أطلقه عام 2012. يحكى مكى فى غنوته عن فشله الذى لم يكن توقعه، وكيف حدثت الطفرة فى حياته من الفترة التى أقبل فيها على إخراج الفيلم، إلى خيبة الأمل التى أرّقته، وقلبت المنافقين الذين سبق وإلتفوا حوله إلى حفنة من الأنذال. إخفاقة مكى، لا تمرق بسهولة، تُنحت فى ذاته، ولكن الأهم أنها تمحيها لأمد ما، طال أو قصر، وهذه هى الكارثة.
فبعد محطة "الحاسة السابعة" نراه وقد سكن فترة، متخليا عن مشاريعه الخاصة. حتى ضربه الحظ ضربة مباركة، راميا فى حِجره دور هيثم دبور فى مسلسل تامر وشوقية. يعود مكى، بفِكر الكوميديا المتهالك، ليصنع شخصية تُجارى هويته، وتبرز موهبته. بل وتكن تقريبا السبب الرئيسى لكى يحقق تامر وشوقية كل هذا النجاح الذى قد حظى به وقتها. يظل مكى من بعدها، محتفظا ببريق دبور، مستثمرا إياه بحذق، وإن كانت هذه الفترة دليلا آخر على تردد مكى، أمام التمرد على ما حصره السوق فيه، إلا أن إنتفاعه بشخصية دبور مشروع إلى حد ما، يُمكن أن يُغتفر، وخاصة فى حالته هو دون غيره. فهو يحمل من الذكاء والموهبة، القدر الذى حفظ له شخصيته التى خلقها بتعب، وجعلها محط أنظار الناس فى المسلسل. فلم يكن كآخرين، إنتهى الأمر بهم إلى مأساة، حينما قرروا أن يحاكوا نجاح شخصية اشتهروا بها، ومن آخر هؤلاء كان هشام اسماعيل، الذى لم يخفى على أحد مصيره المفجع بعد سقوط فيلمه "فزاع".


توالت نجاحات مكى، فمدد ساقيه وذراعيه، وأكد على هوية أسلوبه فى "طير انت" و "لا تراجع ولا استسلام". اتسق أكثر مع مدرسته الفوضوية، الساخرة، اللماحة، والمُواكبة للهجة الشباب، مواضيعهم، ونكاتهم. وكأن نفس النِجم اطمأنت بالتصفيق، فأفسحت لذاتها مجالا تستحقه. ولكن العِبرة بما حدث بعد.

"سيما على بابا" يأتى فيقلب المعادلة رأسا على عقب، الناس تبدى استيائها، والفيلم لا يحقق المنتظر منه، والحُجة المتداولة وقتها، أن الفيلم يشبه أفلام الأطفال. إذا لم تعد خيالات النجم تلقى الترحيب المعهود من جمهوره، "افتكاساته" لم تعد ترضيهم. وهنا مربط الفرس، فليس موضوعنا صحة ما قيل عن الفيلم من عدمه، جودته من سوئه. ولكن ما هو جدير بالإنتباه، الإرتباكة التى داهمت مكى، وسلبته كل نقاط دفاعه عن موهبته. فما إن اخفق فيلمه، إلا وقد انتابته انتكاسة ثقة غريبة. جعلته يرتمى فى أول عمل قادم بين ذراعى السبكى، ليقدم فيلما بلا طعم، ولا لون. فيلما بلا "مكى"، ليس فيه منه أى شىء. مَسخ خرج إلى النور، بسبب ارتعاب بطله، هلعه من حل مأزقه بنفسه، محجما خيالاته التى سبق ونبذها الجمهور لمرة، راكنا إياها بجانب أقرب حائط، جلس عنده بعدها ليبكى مصيبته الجديدة والتى استحقها بجدارة مع "سمير أبو النيل".

 

ومازال مكى على عهده، يتنكر من نفسه، يتوارى خلف مسلسله "الكبير". القشاية الأخيرة التى يتعلق بها. وبغض النظر أيضا عن تقييم أجزاء المسلسل الأخيرة، يبدو النجم وكأنه ينتقم، ينتقم بعنف من الجمهور، يتعامل معهم بمنطق التاجر، يستغفلهم طالما ارتضوا ذلك، غير آبها بصورته أمامهم، وقد أصبح كالأبله الذى تعلق بدجاجة تبيض له ذهبا، وتجنبه الخروج للعمل كل صباح. ينتقم مكى أيضا من نفسه، متماديا فى الكُفر بذاته. مكسورا، مهزوما، فقط لأنه أخفق. فى الوقت الذى يواجه فيه منافسيه إخفاقاتهم، بشجاعة، فحلمى على سيبل المثال، أسهمه تتناقص من فيلم لآخر، ولكنه لا ينسحب أبدا من ميدان القتال. بالرغم من أن حلمى لا يملك خيال مكى، ومقدرته الهائلة على صنع عالما يخصه وحده.

 

آخر كلمتين

 

_ العام القادم إن ظهر مكى حتى ولو سينمائيا، بنفس حالة الكُفر هذه، يحق له أن يعيد نظر فى اسم فيلمه "لا تراجع ولا استسلام" فـ "لا" لم تعد تليق بما يفعله.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

"goodnight mommy"..أن لا تُبصِر بينما ترى

_نُشِر فى مجلة الثقافة الجديدة_ فى فيلم antichrist للمخرج "لارس فون ترير"، تبلغ البطلة الطور الكامل لنوبتها الإكتئابية، فيحل الوهم محل دماغها، ويوعز له بكل المُنكَرات، المُهلِكات، وفظائع الجُرم. تتحول تلك السيدة الرقيقة، واهنة الهيئة والقدرة إلى سفاحة متوحشة. يقودها الوهم إلى التمثيل بجسد من تحب، لتكن على يقين من أنه لن يُفارقها. تعتقد، وتمتطى إعتقادها إلى حتفها بنفس طيّعة. فما إن خَرِبَت رأسها، انتفت هويتها وضُلِلِ هواها. الوهم قتلها، وأمات الحب فيها وفيمن حولها. وفى حياة أخرى، موازية لحياة هذه البطلة المكتوبة فى سطور فيلم، شاهدتُ رجلا يحرص فى سيره، على أن يتحسس فى كل خطوة من خطاه الأرض من تحته. يومها، كنت برفقة زميل طبيب، وحينما رآنى وقد استغرقنى التحديق فى الرجل بإندهاش، أفادنى بأنها   إحدى أشكال حالة مرضية عقلية، تعرف بإسم" catatonia "، يتهيأ فيها للمريض أنه قد يفقد الأرض، لذا فهو يطمئن دوما لوجودها من تحته بتملسها كلما يُحرك قدما. وهماً آخر يدفع الحالات المتأخرة من نفس المرض، لأن تدّب فى مشيتها، ليسعها التأكد من وجود الأرض تحتها. الوهم أقصر الطر...

أضواء المدينة..الفيلم الذى يُضحِكك وإن ضَحك عليك

_نٌشر فى مجلة أبيض وأسود_ فى فيلم dangerous method 2011 يتبادل البطلان مناقشة شديدة الإيجاز حول مفهوم السعادة. فيقول أولهم: "السرور ليس بسيطا أبدا كما تعرفه أنت". فيبادره الآخر: "بل إنه كذلك، إلى أن نقر نحن بتعقيده". فيلم أضواء المدينة عام 1972 إخراج فطين عبد الوهاب وتأليف على الزرقانى، من الأفلام التى تؤيد الشِق الأخير من المناقشة، من الأفلام التى تمنح السعادة خيارا حقيقيا تطِل من خلاله ببساطة، ومن دون تكلف، أو محاولة زائفة للتحذلق والفلسفة المُدّعية. إنه الفيلم الذى ما إن تُعيد مشاهدته، تبتسم من مجرد ظهور تتراته، تستحضر معها روحه الخفيفة الطافية، وخيالات تلك الضحكات الماضية التى سبق وأن أغدق عليك بها.  تزورك لحظات البهجة التى خلقها خصيصا لك، وليس نظيرتها التى انخلقت فى مواقف مشابهة مع أفلام أخرى وفقا لظروف معينة، ملائمة لصناعة البهجة. أضواء المدينة هو الفيلم الذى يُضحكك ببساطة وإن ضحك عليك. سيناريو الحدوتة تبدو تقليدية، اعتدناها من السينما المصرية فى وقت سابق، ولاحق أيضا. ولكن ما ابتدعه السيناريو هنا، ابتكار مدخلا مختلفا آمنا، يسعه مجاراة دراما ...

"قنديل أم هاشم" .. مفهوم غير آمن للإيمان

_نُشر فى مجلة الثقافة الجديدة_ فى فيلم the skeleton key تظل البطلة تردد بهيستيرية " أنا لا أؤمن، أنا لا أؤمن، أنا لا أؤمن" ولكن صوت داخلها يجهر بنقيض ما تصرخ به تماما، إنها تؤمن بالفعل، تؤمن أن السيدة العجوز التى تمارس عليها إحدى تعاويذها، ستتمكن من أذيتها فى آخر الأمر. تؤمن بالسحر الأسود، الذى لا يمكن أن تطال يده أحدا إلا إن كان مؤمن بوجوده وأفاعيله. و"يحى حقى" فى رواية قنديل أم هاشم تطرق لمفهوم الإيمان، خاض فى جانب غير آمن منه، جانب يبعث على الحيرة، ويشير إلى وجه آخر من وجوهه الداعية إلى القلق. فـ "الإيمان" كلمة ما إن ذُكِرت فى أى تراث، يحضر معها شرطيا شعور الراحة والسلام. ولكن الحقيقة ليست مثالية إلى هذا الحد، فـ "الإيمان" أحيانا قد يكون نقمة، قد يكون كُفرا موازيا بما يجب أن نؤمن به. فبطلة the skeleton key فى واقع الأمر لم تؤمن بالسحر، بقدر ما فقدت إيمانها بالرب. ومن هذه النقطة سيبدأ كلامنا عن فيلم "قنديل أم هاشم".. الفيلم الذى أعد السيناريو له "صبرى موسى"، ليطل على شاشة السينما بكل هذه التعقيدات الفكرية ال...