_نُشر فى بوابة روزاليوسف_
"سرى جدا، يُسلم إلى يد جلالة الملك"
جُملة اِعتلت مظروف خطاب وجده الملك مع البوسطة. فتحه، ومن ثم قفز عن مجلسه متأهبا، غائبا، كمن لم يعى أنه يدور حول نفسه...
وفى مشهد تالى، وهو المشهد المعنِي بالحديث...
يهرع الملك الشاب إلى منزل حسنين باشا، بعدما أخفق فى الوصول له تليفونيا. يهرول قاطعا الساحة الخلفية، قاصدا البوابة، فإذا به ينكفىء واقعا، متمرغا بكامل جسده على البلاط. تضرب البواب من خلفه حالة ذهول، يقف متخشبا، مصدوما لدرجة تعميه عن القدوم لمد يد العون. يلملم فاروق جسده، ويبقى متكئا لثوانى على ركبيته، ومن ثم يمط قامته فجأة ويجرى ناحية قصر حسنين. حينما يعلم أنه فى الحمام، يُكمل درب جنونه إليه، ينتشله من مياه البانيو، ويأمره بالخورج فورا.
إلى هنا، تنتهى ملامح الحالة التى رسمها قلم د.لميس جابر، التأهيل النفسى الموحى بفداحة ما سيحدث، التهيىء الملائم لقدر المشاعر الموجعة القادمة. كل تفصيلة مما ذكرت، تلعب دورها فى شحن المتفرج، وضبط مقدار تيقظه وتورطه مع المواجهة العصيبة المستعصية على الفهم فيما تبقى من المشهد، المواجهة الساكتة عن المنطوق، والناطقة بما قد سُكت عنه.
الخطاب السرى، لم يكن إلا وسيلة إعلامية تنبأ فاروق بتصرفات أمه الغير لائقة، مُستغلة بُعدها عن مصر، وسفرها المنعزل إلى القدس. أفعال مشينة كمرافقة القنصل المصرى، السهر والرقص كل ليلة مع الضباط الإنجليز، الشرب والقمار، والسماح للأميرة فايزة هى الأخرى بما يشابه كل ذلك.
ومن هنا أيضا يبدأ دور الأداء، أداء تيم حسن، الأداء الذى يحمل فوق عاتقه إدارة الملحمة الخفية الدائرة فى المشهد. بداية من ضياع الهيبة، الكرامة، وانكسار نتوء العِند الحاد الذى يملكه الشاب، على الرغم من سذاجته. يحط فاروق نفسه على مقعد مكتب حسنين، ويظل يبكى، ببراءة طفل، وذلة رجل. يظل دقائق، محاولا أن يلتف حول الموضوع، لا يلبث أن يخبر حسنين عن قلة حيلته، ونفاد صبره. عن خوفه من الأقاويل والشائعات، عن عجزه فى السيطرة على جموح أمه وفضائحها. ينهار فاروق بصِدق، يبلغ حافة الإنزلاق....
"اتجوزها يا حسنين (يتشبث بورقة وقلم أمامه، فى عدم وعى) ...هاكتبلك أمر ملكى"
يقول وقد خارت قواه تماما، ينطقها بلهجة منهزمة وملتمِسة، فيثنيه حسنين عن قوله بخجل..
يزعق بعلو صوته، والرذاذ بين كلماته يحمل غلا، حقدا، واشمئزاز ..
" أنا مش نايم على ودانى، أنا عارف كل حاجة، عارف إنها بتعمل كدة علشان تغيظك وتخليك تتجوزها، وعارف إن إنت كمان مابتحبهاش"
فاروق فى هذه اللحظة يحتاج حسنين، ليس لأنه الوحيد المعول بحل تلك المسألة، وإنما لأنه الوحيد الذى يسمح فاروق لنفسه بأن يتبدى أمامه ضعيفا إلى هذا الحد. يُقبل عليه ممتلأ بالإحساسين، الحب والكُره. برغم كل شىء، ثمة حب صادق بين هذا الرجل السسياسى الداهية، وهذا الشاب الملك الذى ساقته الظروف ببطىء وئيد إلى حتفه السلطوى. نزعة اعتماد طفولى من الثانى تجاه الأول، يقابلها قدر من الحنو الأبوى من الأول حيال الثانى. ولكن الكره مازال رابضا على مبعدة، ففاروق لم يسامح حسنين، لأنه يعى تماما أنه من بدأ غواية ملكته الأم ، وتسلق علي توريط مشاعرها معه كسلم يصل به لهذه المكانة إلى جانبه.
هذا المشهد بداية لإنحدار علاقتهما، تلاشيها تماما، وإلزامها سجينة داخل حيز رسميات السرايا وكفى. فالمصارحة كانت كفيلة بأن تُطلق السر، السر الذى لم يكن سر فى حد ذاته، ولكن التعامل معه بإعتباره كذلك، كان أفضل لكل الأطراف (فيما عدا ناظلى). والكلام حينما بدا مباح عنه، عكر صفو المصالحة التى كانت تقف على شعره ما بين القرب والبعد.
من بعد هذا المشهد، تخبو الحميمية ما بين الأب المزعوم وإبنه، وتتولد طاقة رهيبة من الحرج، الجرح الذى يشعر به كل من رجلين تربطهما مثل هذه العلاقة، ومن ثم تنتصفهما إمرأة، إمرأة تشطر هيبة الإثنين أمام بعضهما البعض. تنشرخ اعتمادية الثانى على الأول، بعدما اجتاز الأول حُرمة الثانى، فماذا سيبقى بينهما بعدما ترغب ناظلى فى حسنين حد الجنون، وهى والدة فاروق، ورمزا من رموز هيبته الرجولية والسلطوية.
أداء تيم لخص كل هذا الكم من عبأ المشاعر، من دون صوت صريح..
بدا كل هذا البكاء عفويا صارخا، ذليلا وحاسما فى قطع كل وِد كان. تماما كنبرة الصوت المتأرجحة ما بين الإذعان والجموح، المقت، والإحتياج.
وبقى عزت أبو عوف متسمرا متضامنا مع صمت شخصيته، مُلبى قدر الأداء الذى يطلبه منه النص، تاركا الحلبة لمباغتات تيم، وارتجالاته العفوية التى قوّت من شوكة الحالة بأكملها. متضافرة خطوة بخطوة مع موسيقى الأردنى الموهوب طارق الناصر.
آخر كلمتين
_ هذا المقال، يقصد الحالة الإبداعية المتضَمنَة فى المشهد بعيدا عن اللغط السياسى، ومدى اتفاق تفاصيله مع الواقع التاريخى من عدمه.
تعليقات
إرسال تعليق