نُشر فى موقع كسرة
على عكس ما قد أقر به نجيب محفوظ في مقولته “العاشق لا يتعب”، تأتي قصة المثّالة الفرنسية كاميل كلوديل، التي لم يمنحها العشق سوى التعب، السقم الذي لن يحل بعده شفاء أبداً.
حدوتة كاميل كلوديل هي المحاكاة الأقرب للقصص الحياتية المفرطة في فجاعتها، إلى درجة يقف عندها الذهن مشدوهاً، لا يقوى على مجاراة تخيل هذه الحياة الممسوخة، وكأن ثمة بقية يخبئها لنا التاريخ لم يعبأ بسردها بعد. هل ارتضى لها القدر بالفعل هذه الحياة المنقوصة؟!
مأساة كاميل
كاميل التي ولدت وسط عائلة أرستقراطية في فرنسا عام 1864، وثابرت تدافع عن موهبتها في فن النحت أمام امتعاضات والدتها الدائمة، مطمئنة بدعم والدها المؤمن بتفردها وقدرتها على تحقيق ذاتها. إلى أن قادها حظها العاثر لمقابلة المثّال أوغست رودان، لتتورط معه في علاقة عشق موغلة تفقدها القدرة على التوازن، لدرجة تتماهى فيها هويتها وموهبتها في غمار المشكلات التي تدرها عليها هذه العلاقة المشؤومة، سواء على صعيد سمعتها ورضاء أبويها أو من ناحية إهمالها لعملها، وشعورها بالانحطاط مقابل إيثار رودان للإبقاء على رابطته مع زوجته بدلاً من أن يتزوجها رسمياً، وينتشلها من لعنات الجميع، معيناً إياها على استكمال مسيرتها الفنية التي تنبأ لها الجميع بالنبوغ. ولأن رودان استمر في جُبنه وتواريه، وبالرغم من أن كلوديل نجحت في التملص من قبضته، إلا أنها لم تسلم من الارتجاعات العشقية التي ضربت رهافتها في مقتل، وأصابتها بنوبات عصبية هواجسية أفقدتها جزءاً من عقلها، فالتزمت منزلها فترات طويلة، وحطمت أثمن أعمالها، وبقت على يقين أن ثمة من يريد التخلص منها لا سيما رودان وبعض من أفراد عائلتها. وبدلاً من أن تَلقى كلوديل يد المساعدة لتدفع بها بعيداً عن دوامة المرض، ساقتها عائلتها إلى مصحة عقلية في جنوب فرنسا، قضت فيها الثلاثين عاماً الباقية من حياتها، ولم تفلح توسلاتها ورجاءاتها في رسائلها لأخيها الصغير بول كلوديل، والتي تستحسه فيها بأن يرأف بحالها، ويسمح لها بالخروج والعيش في سلام حياة هادئة في الريف، فتتحقق في النهاية مخاوفها التي طالما صارحت أخوها بها _”أرتعب من فكرة أنني لن أحصد يوماً ثمرة جهودي وأني سأموت هكذا في العتمة الكاملة”_ وتفارق الحياة عام 1943 في العتمة التي خشيتها بين المجانين.
كاميل والسينما
ما يضيف تميزاً لحكاية كاميل والسينما، هو اجتماع فيلمين على تمثيل معاناتها بوجهة نظر مغايرة، في الوقت الذي يبدو كل منهما وكأنه يُكمل الآخر؛ ففي عام 1988 قام المخرج Bruno Nuytten بتجسيد ملحمة كاميل ورودان كاملة، بداية من الموهبة المهدرة والعذرية المغتالة لكاميل، ونهاية بمنفاها في المصحة، مروراً بعلاقتها مع والديها وأخيها، وبينما اكتفى Nuytten في نهاية فيلمه بالمشهد الذي تستسلم فيه كاميل لقدرها وهي في طريق المشفى، جاء المخرج Bruno Dumont عام 2013 ليخوض تجربة مختلفة، ويستكمل هذه الرحلة التي قضت على كاميل بين جنبات هذا المكان في جنوب فرنسا، لينقل لنا الوجه القبيح لسنوات الرعب التي نهشت مما تبقى في نفسها من أمان، لتموت مُرَوِّعَة عن عمد وسبق إصرار وترصد.
Camille Claudel 1988
نغمات الكمان تقطر شجناً، أجواء مقبضة تطل بدفء رغم كل شيء، مسافة من الحميمية يقطعها إلى صدرك فيلم Nyutten، لتجده يمتلكك بمجرد إطلالة مشاهده الأولى، يُورِطك في حضوره الكلاسيكي، ويُحضرك للمأساة بنعومة.
فقد اختار الفيلم نقطة انطلاق دلالية ليبدأ منها، حينما أشار في البداية إلى اختفاء كاميل “إيزابيل إدجاني”، وبينما تطوع الجميع للبحث عنها، تبدو هي منهمكة في جمع الطين من شوارع فرنسا في ليلة مظلمة، وتعود في حماسة للأستديو الخاص بها، لتظهر بعدها وهي تهم بالعمل في قطعات مونتاجية سريعة متوالية، تبث في المتفرج قدراً من الحيوية التي امتلأت بها هذه الموهوبة، وتُسرب إليه شيئاً من الطاقة التي كانت تكنها لفنها. إنها البداية التي ستظل تلاحقنا عندما تحِل المشاهد النقيضة، التي تبدو فيها كاميل كائناً بليداً، فقد الوعي والقدرة والثقة والقيمة، فلم يعد يعرف نفسه فاقداً شهيته صوب الكون برمته؛ فارق حاد، كالنهار والليل، اعتنى به المخرج في افتتاحيته، وتركه يعبر عن نفسه قبيل نهاية الفيلم.
صاغ سيناريو الفيلم العلاقة بين كاميل ورودان بمنتهى التمهل، منحها وقتها الكافي، ليجسد المشاعر العاطفية فيما بينهما في قالبها المتوهج الصحيح، بعيداً عما تقع فيه أفلام مماثلة حينما تسرد عن العلاقات العشقية الحقيقية بين الطرفين، باعتبارها مرحلة من مراحل الحدث الموثق، فتقدمها بصيغة إعلامية معلوماتية أكثر من كونها تمثل شحنة عاطفية، وهو الأمر الذي تخطاه سيناريو الفيلم، وخلق بدلاً منه شعوراً مستساغاً داخل نفس المتفرج حيال هذه العلاقة العشقية على الرغم من تبعاتها. والتي مَكننا من معايشتها برؤية محايدة، نرى فيها رودان متورطاً بقدر كاميل، يتبدى قلبه الطفل على الرغم من الأخطاء التي أساء فيها إليها دون نية قصد. وقد لخص السيناريو شخصية رودان في فقرة حوار دارت بينه وبين كاميل، حينما شرع في موضعة الموديل الذي استعانت به كاميل في إحدى منحوتاتها، فوجه رقبته بعنف ليحصل على شكل معين للعضلة التي يريد نحتها، فنبهته كاميل “احترس فأنت تؤلمه”، ليرد عليها في لامبالاة “إن لم يتألم ستختفي تفاصيل الحياة من منحوتتك”.
من العلاقات المهمة في حياة كاميل، ما جمعها بأخيها بول كلوديل، تولى السيناريو هذه العلاقة بالرعاية، وحرص على تبيان تفاصيلها وخاصة في النصف الأول من الفيلم، حيث برزت الحميمية الملحوظة في التعامل بينهما، فكاميل برغم شخصيتها التي تبدو صلدة صماء إلى حد ما أمام عائلتها، بدت وكأنها ترتمي بحملها كله على كتف أخيها الصغير بول، ليعمد إلى تهدئتها بالقراءة لها من كتب الشعر التي سبق ودلته عليها، والتي كونت أساسات وعيه كشاعر سيشتهر صيته فيما بعد.
اعتمد السيناريو على هذه الدفقات الإنسانية المؤثرة في معظم المشاهد التي جمعت بين بول وكاميل قبل توجهه الديني، وتغير طباعه السَمحَة، فنجده في بداية الفيلم يُعبّر لها عن إعجابه بجمالها، فتسأله “أليست هذه خطئية”، يجيبها في بساطة “الخطيئة ليست لها وجود”. بينما نراه قبيل نهاية الفيلم، يشعر بالخزي منها، ومن خطيئتها وفنها، ويقر بأنها لم تعد تملك شيئاً ذات خصوصية. يتضح أيضاً من التعامل الذي كان بين كاميل وبول، أنها مثلت بالنسبة إليه السند الأوحد، فهي من تحرض موهبته الشعرية، وتستمع إليه. وحينما نحاول التفكر في أسباب تحول شخصية بول إلى صيغة مجافية لما كانه من قبل، سنجد السيناريو قد مهد لها بجدارة، حينما دفعنا للشعور بالفجوة التي أحدثها اختفاء كاميل من حياته، وقتما توغلت علاقتها برودان. وعلى الصعيد الموازي سنجد بول هو الآخر سبب في تدهور حالة كاميل حينما تركها وحيدة وسافر إلى نيوريورك، في وقت حرج قررت أن تقطع علاقتها برودان، هذه العلاقة الغرائبية تمثل لغزاً مستقلاً يسترعي الانتباه، أجاد هذا الفيلم التطرق له وأبرزه قدر الإمكان.
أوضح السيناريو في مشاهد مقتضبة، ذلك الكره الذي كانت تحمله والدة كاميل لابنتها، ومزاولتها انتقادها بشكل لاذع يصل إلى الإهانة طوال فترة حياتها، فكانت هذه الضغينة عذراً كافياً لكي تظل كاميل منفية في جنوب فرنسا بين المجانين، بدلاً من تفضيل الأم عودتها واضطرارها مواجهة هلاوسها، وأصداء حكايتها الشهيرة مع رودان التي حطت من قدر سمعة الأسرة. وخصوصا بعد وفاة الأب، الذي جهد لأن يوفر لها طوال حياته شعوراً بالأمان والثقة، حتى بعد خذلانها له بتماديها مع رودان والتشاغل عن موهبتها. رسم السيناريو تشعب هذه الخطوط في دسامة وهندمة، لتأتي في النهاية وتشارك في خلق المأساة دون الحاجة إلى التوضيح المباشر، أو الإشارة في الحوار.
بناء السناريو في النصف الأول من الفيلم، أعطاه مساحة كافية من الصمت في النهاية، تاركاً تبعات السرد المُحكم لتفصح عن نفسها بغير ادعاء.
على مستوى الصورة، خلق الفيلم الأجواء المرئية الملائمة للسرد عن فنانين بقامة أوغست رودان وكاميل كلوديل، فبرزت المنحوتات بأناقة تليق بعراقتها وقيمتها التاريخية، مصبوغة بصورة جمالية إضافية، لعبت دورها الإضاءة النارية، والاستخدام الواعي للظلال وتوظيف العتمة، مما أضفى على مظهرها معنى أسطوري حالم بعض الشيء.
كادرات كاملة استشرت فيها تكوينات واسعة للمنحوتات المتراصة بعين فنية راقية، تجعلك تشعر وكأنك عدت من جديد لتعاصر مولد هذه الأعمال الفنية وقت خلقها، كما استخدمت المفردات المرئية نفسها، لتدعيم جماليات الصورة عموماً على مدار الفيلم، بل إنها كانت أداة من أدوات الرمزية الواضحة التي تضمنتها الصورة، فمثلاً نرى العتمة في توظيف رمزي تظهر فيه كاميل في منطقة مظلمة من الكادر، مقارنة بمنطقة مضيئة تقع خلفها أثناء تواجدها في أستديو رودان، وكأن الصورة المرئية تلك نذير للعتمة التي سيُحدثها صاحب المكان في حياتها فيما بعد، تماماً ككادر آخر، يظهر فيه رودان محتضناً كاميل، وهما يخطوان على مهل صوب منطقة حالكة الظلمة من المنزل الذي قررا الإقامة فيه بعد عودتهما من باريس، بالرغم من أن الجانب الآخر من المنزل مضيئ وواضح.
وكادر آخر مماثل، تظهر فيه كاميل ككيان مظلم حينما تقف على بعد خطوات من رودان وقت قررت العودة إليه، وبالتكنيك نفسه في كادر أخير يظهر كف أحدهم في شبحية سوداء وهو يحكم إغلاق قفل الأستديو الخاص بكاميل، بعد نقلها إلى المصحة. على الصعيد الآخر، ظهرت الإضاءة النارية الدافئة، نسبية في خفوتها وتوهجها تبعاً لمؤشرات علاقة رودان وكاميل، ففي بداية علاقتهما وتحديداً في مشهد العربة، وهو المشهد الذي يعترف فيه رودان لكاميل أنها باتت مصدر إلهامه نرى للإضاء النارية وجوداً يعلن عن نفسه، بينما نجده في غاية تألقه في المشاهد الذي انتقلا فيها رودان وكاميل للعيش معاً.
Camille Claudel 1915/2013
كادر عبوس، تقف فيه كاميل “جوليت بينوش” بخلفيتها وشعرها المشعث بارزاً، تستدرجها إحدى الممرضات إلى غرفة الاستحمام، وفي شيء من العنف يجبرونها على الاسترخاء، والامتثال لرغباتهن في تنظيفها.
هذه هي اللحظة التي اختار المخرج Dumont أن يبدأ بها فيلمه، لحظة تجافي بداية الفيلم السابق، يتبدى فيها ذبول كاميل وتلاشيها، ويسيطر عليها الشحوب والصمت المطبق.
في فيلم Dumont لن تستمع إلى نغمة كمان حزينة، لن يتدخل شريط الصوت ليعزلك مرة واحدة عن أصوات المحيط من حولك، هذا المحيط الذي اختار المخرج أن يعرضه لك بأسلوب تكثيفى متميز، ليؤكد على أن مأساة كاميل لم تنتهِ عند باب المصحة، بل بدأت في أن تتحول إلى كابوس حقيقي يستوجب الوقوف عنده وتناوله تفصيلياً.
استحضر الفيلم أجواء المصحة، جسّدها على المستوى المرئى والشعوري بمجهود إعجازي. تتبع تنفيذ كل مشهد بمعايشة مفرطة، لنجد أنفسنا بين عدد من المرضى في محيط مغلق (يصرخون، يضحكون، يسيل اللعاب من بين شفاههم بغير وعي)، نختبر مع هذه الفنانة التي لم يبقَ منها سوى حفنة أنفاس حياتها الجديدة، والتي ستظل فيها لمدة 29ً عاما أخرى. كل شيء يبدو طبيعياً، تلقائياً، ولهذا يبزغ في قمة بؤسه وإرهابه، ففي مشهد تتناول فيه كاميل طعامها، تقوم إحدى المريضات بالطرق على طاولة الطعام لمدة مُسهِبة من الوقت، بشكل منفر ومثير للأعصاب، يبدأ المشهد بصيغة تمهيدية عادية، حتى حينما تتناول المريضة الملعقة وتواظب على الطرق، يحدث هذا بتدرجه الهادئ الوئيد لدرجة تنل من سلامنا النفسي بالفعل حينما يبلغ الأمر ذروته. هذا التأني في تنفيذ المشاهد، قام بتوصيل المعنى الأساسى الذي أراد الفيلم توضيحه، فالأمور الصغيرة التي قد نحسبها ستمرق أهون من غيرها تبدو هي المعضلة الحقيقية. حياة كاميل قبل المصحة، مقارنة بحياتها في المصحة كانت على الرغم من كل ألمها هِبة لن تُعوَّض.
تتحرك كاميل في عادية، تتمشى في جولات خارج المدرسة، وتذهب إلى الكنيسة، تراقب المرضى من النافذة، وتجالسهم في الصالات وهي صامتة، وفي مشهد كامل تشرب كوبين من المياه ومن ثم تمضي إلى غرفتها. هذا التعمد في أن تتعدد المشاهد التي لا يحدث فيها أي شيء، تبدو فيها كاميل حيادية، شاردة أحياناً، ومتشاغلة فيما تفعله أحياناً أخرى، إنها الطريقة التي أعدنا الفيلم بها لكي لا ننتظر شيئاً، نستمع ونشعر وكفى. تمر علينا لحظات ليس لها معنى، وأخرى هادئة، وغيرها مشحونة وممتلئة خوفاً، ومثيلتها مملة. الديالوج الحقيقي اعتمد على المناجاة الداخلية التي يضطرم بها صدر كاميل، ديالوج واقعي قد يبلغ حافة الاحتراق في وقت، وقد يخبو في وقت آخر، هذه الواقعية جللت من مهابة منفى كاميل، وجعلتنا نشعر بوقعه أضعاف قدره، من دون ابتذال أو استدرار للمشاعر.
وعندما حاول السيناريو تقريب الصورة نوعاً ما، لجأ إلى رسم مشاهد تمثل إسقاط متواري لما تشعر به كاميل، فمثلاً نرى مشهداً تجلس فيه لتراقب مريضتين وهما يحاولان الإذعان لإرشادات مدربة التمثيل، ومع عجز المريضتين عن أداء المشهد المطلوب منهما، ومع تجلي صورتهما وهما أقرب للمسوخ، تحتال الابتسامة التي ارتسمت على شفتي كاميل لثوانٍ إلى نوبة بكاء ضارية، وحينما تسألها إحدى الممرضات عن سبب بكائها، تفيدها بأنها لم تعد تقوى على رؤية معاناة هذه المخلوقات. نعم إن هذا سبب وجيه لبكائها، ولكنه جزئي، نصفه الآخر أبعد مما صرحت به، وهو الذي يتمثل فيما ذكره بها المشهد الذي يدور حول البطل الذي يوعد حبيبته كذباً بالزواج، حيث أعاد لها مربط فرس مأساتها مع رودان.
مشاهد أخرى كانت كفيلة لتنطق من دون صوت، كالمشهد الذي وجدت فيه قطعة الطين وداعبتها بإصبعها وكأنها تستعيد ذاكرتها مع النحت، ومشهد آخر وقفت تراقب فيه المرضى الذي قد سُمِح لهم بالعودة إلى البلدة من جديد.
على الرغم من تشبث الفيلم بنقل الصورة من داخل المصحة، إلا أنه لم يقوى على تجاهل شخصية بول كلوديل أخو كاميل، وخرج من أجوائه المغلقة خصيصاً ليلقي ضوءاً على هذه الشخصية التي سبق وأعربت عن غرابتها في سطور سابقة. تعمد السيناريو أن يسخر بوضوح من تدين بول، ويُظهره في أحط مرتبة، فصوره في تعنفه الديني أشبه بالمعتوه الذي يستعرض عضلاته وهو يناجي الله على وريقات يومياته، ويتهم أخته بالجنون ويحمد الإله على أن مصيره لم يكن مثلها، بعد أن أغلق رسالة قد كتبها للتو إليها، يؤنبها فيها على جريمة إجهاضها طفل رودان غير الشرعي، يكتب بول كلمتين، ومن ثم يرمق عُريه ويحض عضلاته على البروز، ومن ثم يعود ليستطرد كتابة ومن ثم يتوقف ويعاود الكرّة ويفتل عضلاته، بالإضافة إلى المشهد الطويل الذي يسرد فيه بول للقديس في الكنيسة التي يصلي فيها عن لحظة إيمانه، هذه الكلمات الطويلة التي ينطق بها بول بنبرة فخمة ومهندمة، ليقابلها شريط الصوت في النهاية بطنين ذبابة يظل يتعالى ويخفت من حين إلى آخر، وكأن كل هذا الحديث كومة من القاذورات، مجرد كلمات رنانة خرجت من روح دنسة، ارتضت الموت لذويها ببشاعة.
على مستوى الصورة، نجد بعض الكادرات التي رمزت لحالة كاميل الآنية، منها الكادر الذي ظهرت فيه الشجرة المجردة من أوراقها، التي ظلت كاميل تحدق بها وقتما طلبت أن تتناول طعامها في الفناء، بعدما أثارت إحدى المريضات الجلبة بالملعقة.
كادر آخر، ظهرت فيه يدا إحدى المريضات مقيدة قبالة كاميل بعدما خرجت من غرفة الطبيب، إثر لقائها الأسبوعي وبوحها في مشهد مطول عن معاناتها داخل المصحة، وما إن تقع عينا كاميل على القيود في يد المريضة، تغير وجهتها على الفور إلى الداخل، بعدما كانت تنتوي التجول في الخارج.
بالإضافة إلى الكادر العلوي، الذي اختص به المخرج كاميل وهي ترد على حديث أخيها وهو يعظها حول وجودية الله، فتقول في أريحية وصدق “إن ما كان يدفعني إلى النحت، هي محاولتى لإيجاد الصلة التي تتحدث عنها مع الله”، في هذه اللقطة بالذات، تناولتها الكاميرا بنظرة علوية، وكأن الله يراها هي دونا عن أخيها الذي يتطوع للحديث عنه وباسمه طوال الوقت، دون أن يعي عنه شيئاً.
آخر كلمتين
_ “جوليت بينوش” أطفأت وهج “إيزابيل أدجاني”، على الرغم من براعة الأخيرة، ولكن أداء الأولى غير قابل للمقارنة، رغم اختلاف الظروف، وشكل المعالجة بين الفيلمين.
_ أوغست رودان هو المثّال صاحب المنحوتة الشهيرة “المفكر”.
_ من أشهر منحوتات كاميل، ذلك التمثال الذي تظهر فيه سيدة في وضع استجداء لرجل يمتثل لرغبة سيدة أخرى في الاستيلاء عليه، بعضهم يأول معنى هذه المنحوتة وفقاً لمأساتها الشهيرة مع رودان، ولكن على لسان كاميل في النسخة السينمائية الأولى، يأتي التأويل بأن الثلاثة أشخاص الذي يجمعهم التمثال ما هم إلا كاميل، فهي المرأة المستجدية لعشيقها وهي الرجل الذي يحتمي بامرأته، وهي المرأة التي تحتمي برجلها، جاءت تلك الكلمات على لسانها رغبة منها في إلغاء وجود رودان، وإمحاء شخصه من الأساس، فهي في الآونة الأخيرة، باتت مؤمنة بأنه استغلها إنسانياً وفنياً، لدرجة أنه سرقها كاملة، فلم يكن وجوده إلا تعبيراً عنها، ومن الجائز أن تكون خلقت المنحوتة على هذا الأساس بالفعل. المنحوتة تسمى “عصر النضوج”.
ياللوقدة الفكر وحدة الذهن وبراعة الرؤية .. أشكرك على هذا المقال الرائع الذى أقرأ مثيلا له فى جرائدنا او مجلاتنا الفاشلة .. كل الشكر
ردحذفالذى لم (تصحيح)
حذف