السينما دوما تقف فى وجل أمام هيبة الأدب، حتى وإن تعدى جمال أى فيلم قيمة الوصف، يظل مطأطأ الرأس أمام رواية توازيه جمالا. فالأدب يطوى لنا أعمارا مغلفة بين صفحاته. يطوع لنا أزمانا وأمكنة بطريقة عصية المقارنة بما قد يمنحها إياها فيلم. أما الشخصيات فهى العنصر الوحيد الدامغ على المساحة البليغة التى يملكها الأدب، وتفتقر إليها السينما. ففى رواية ما قد يمتد حكى الأديب داخل أحد شخصياته طولا وعرضا، يستغرق فى أدق سماتها، ويغدق عليها وصفا. فلا نحن نمل أو نكل، بل إن وُفِّق فى صُنعه، نجد فى ما بين سطوره بوابات لحيوات مغايرة أفرزتها هذه الشخصية الواحدة، بل ونطل من فوق عاتقها على جذور ومنابت أكثر غرابة للنفس البشرية.
“بيات شتوي ـ winter sleep” فيلم نورى بلجى التركى، والذى شارك فى مهرجان كان 2014، وعرض لأول مرة بالعالم العربي في مهرجان أبوظبي السينمائي، وأعيد عرضه ضمن بانرواما الفيلم الأوروبى بالقاهرة، وبغض النظر عن أصله القصصى الذى يحمل إمضاء “أنطون تشيكوف”. هو الفيلم الذى يحمل إلينا قلب رواية شديدة العذوبة والدقة ليضعها بين أيدينا وأرواحنا لمدة تفوق الثلاث ساعات. فيدفعنا لإختبار تجربة لها سبقها فى تحدى خصوصية الأدب، وتولجنا ببساطة فى منطقته المحرمة التى كتب عليها إسمه منذ زمن.
الحالة التى يحولقنا بها الفيلم بعد إتمام المشاهدة، هى ذاتها التى تفعلها فينا رواية طويلة، ساحرة بقدر ثرثرتها، مكثفة بقدر طولها. يجوز لكل مشهد فيها أن يحتال إلى فيلما قصيرا، ساحة حلبة مستقلة بذاتها، لها من القدرة أن تحتمل صراع مديد لايخمد، يبدأ من حيث إنتهى، ويزاول نحيبه من حيث إنعقد.
وجهان لعملة واحدة
عادة تنّفرنى المعانى القريبة، تفصيل الشخصيات الزائد عن الحد، وتفصيص الصراع لكى لا يكون عصيا على الهضم. وبالرغم من أن winter sleep أتى على كيان شخصياته توضيحا للنهاية، وجعل منها صفحة مكشوفة إلى آخر سطر. إلا أن هذه الطاقة فى حد ذاتها هى ما أشبعت الروح بقدر من الجمال قد لا أتعرض له لمرة أخرى فى فيلم سينمائى. حقيقة تشغلنى مثابرة السيناريو على إستلهام عقدته الدرامية من وظيفته المهندمة فى تشريحها تشريحا دقيقا. فكيف يمكنك حتى وأنت تشرح نفسك، الإجادة بهذا الشكل المخيف؟!
السيناريو قرر فى فيلم بلجى أن ينطلق من كتلة معقدة، مُجهلة، ومُفوِضة إلى المتفرج الأمر فى التخمين كما تقتضيه فراسته. المشاهد الأولى توضح هذا المكان الموحش، الواقع فى قلب الثليج، وهو يحتضن فى جوفه ثلاثة شخصيات رئيسية، رجل مسن، إمرأة تصغره قليلا، وشابة جميلة. يحرص السيناريو على إخفاء طبيعة العلاقات التى تربطهما ببعض لوقت طويل. وفى المقابل يمنحنا هدنة لقراءة ما تحمله النظرات، وردات الفعل، وشكل الأحاديث. وفى الوقت المناسب عرى حقيقة الأواصر التى تجمعهم ببعض، وبدأ يحفر فى قيعان نفوسهم بضراوة، ليضعنا أمام صدمة درامية متفردة ممتدة الوقع.
ففى مشهد يستحضر فيه الرجل المُسن “إيدين” المرأة الشابة “نيهال” لكى تشاركه قراءة أحد خطابات معجباته، ومتابعى مقالاته (بغرض سؤالها عن مدى صحة قراره بخصوص الإقدام على الإستجابة للمساعدة التى تطلبها هذه السيدة فى رسالتها)، يتبين كم خراب هذه العلاقة أى أن كان مسماها، فالمباراة قائمة بينهما بصورة يُنهك لها اللهاث، هجمات وتهكمات مبعثرة فيما بين جمل الحوار التى يتراشقاها، نظرات كل منهما للآخر، رغبة الرجل الجلية فى التباهى بما كتبته السيدة فى كلماتها من مديح، وتأفف الشابة الواضح من طريقته الرخيصة فى تسعير نفسه والتى يَحسبها خفية. فى الوقت الذى تظهر مسحة حميمية بين المرأة الأكبر سنا “نيجلا” وبين “إيدين” فنراها، تجالسه حين يُقبل على الكتابة، يلجأ صِدقا إلى مشورتها، ويجد مساحة حوار معها لا تبدو بذات الإستحالة التى إلتمسناها سابقا بينه وبين “نيهال”.
ومن ثم وفى وقت إختاره السيناريو، نعرف أن “نيهال” زوجة “إيدين” و”نيجلا” أخته. كل شىء لم يبدو كما هو عليه، “نيجلا” لم تكن بكل هذه الرحابة فى التعامل مع “إيدين” بما تمليه عليه طبيعتها، بينما وفقا لما أراده هو منها، هى الأخرى حانقة عليه بطريقة ما، ولكنها أجلت مواجهتها معه، عكس “نيهال” التى أعلنت حربها عليه بقوة، ونحته على حافة عيشها. ومن هذا المنطلق، نجد أن إيدين هو المحرك الرئيسى لمشاعر كل من حوله، هو من يقف منتصبا لينجذب إليه طيار التذمر.
ولأن شخصية “إيدين” ليست بهذا السوء الذى قد يتصوره قارىء هذه السطور، هو مجرد نفس بشرية لها جنباتها السيئة، والمُدعية بعدم إدعائها، وإلتزامها بحُلة تواضعية. كان لابد لسير السرد بهذه الطريقة الغامضة فى البداية. ومن الأولى بالفعل أن نتعرض لـ”إيدين” بطبيعية وعلى مبعدة من المصارحة التى تفرضها وجهة نظر الشخصيات الباقية، عملا مع شكل علاقاتهم به. فهذه المساحة التى أفردها السيناريو لنا، جعلتنا نتعرف على “إيدين” مبدئيا بنظرة حيادية، تبدى فيها سعيه للتفاخر بنفسه، ثقته المهشمة بحاله، ركوضه لفرض نفسه على الآخرين، إلى جانب قلبه الطيب، ومسحة الحنان الذى يملكها. فقد إرتئينا تأرجح “إيدين” بين سماته المتناقضة هذه على مدار مشاهد الفيلم، بحيث بدت بينة قبل الكشف عن علاقته بالمرأتين وبعدها.
“إن كنت لا تملك القدرة على تغيير الأشياء، فأقبلها كما هى، إقبل الناس كما هم، ولا تمضى فى الحكم عليهم”
جملة قالها “سوافى” صديق “إيدين” هى فى وجهة نظرى عقدة دراما الفيلم بأكمله، إنها المعضلة الغريبة التى يضعنا أمامها السيناريو، فى معادلة تسلب العقل، وتجتر من محاولتنا إقتحام فلسفية هذه الأطروحة، التى أغلقت كافة نوافذها، وإكتفت بإبداء الوضع الموحل الذى غرست أقدامها فيه، فتطلق فيك يد الجنون، وتخلف لك حالة من الهياج الفكرى اللاذع. فمع ملاحظة كافة سلبيات “إيدين” سنجده يُطبق هذه المقولة مع أقرب الأقربون إلى قلبه، على الرغم من أنه يقف موقفا منافيا تماما مع الغريبون عنه، فنجده مثلا لا يميل لإنتقاد “نيجلا” إلا بعد تماديها بطريقة منفرة ومستفزة للمتفرج نفسه فى إنتقاده، ولا يفعلها أيضا مع “نيهال” حتى ولو على سبيل رد إلقاءها مساوءه صريحة فى وجهه. بينما نجده، مستأسدا للأستاذ (رجل غريب عن العائلة)، فيُدخله فى تحقيق، لأنه استعان به فى حديثه الغير قاصد للإهانة، كنموذج للثرى الذى قد يساء الظن به من الناس. الجملة التى قالها “سوافى” هى حل ميسور لكافة مشكلات هذا الكوخ الصغير الذى يجمع “إيدين” و” نيهال” و”نيجلا”. حل يُطبقه “إيدين” حرفيا، ولكن بغير وعى، فهو وبرغم معارضته وبشدة لفكرة “مقاومة الشر” التى عرضتها “نيجلا” للمناقشة معه، يسير على خطواتها طبق الأصل فى تعاملاته مع “نيجلا” “ونيهال”، وفقا لطبيعة تركيبته، التى تحاول استدرار شفقة من يحبه بعدم مبادلته الإساءة، كنوع من الأنانية تشى بأنه الأفضل، هو الأقوى على نكران ذاته، فهو الأطهر. هى التيمة التى تجده عليها وخصوصا فى مشاهده مع “نيهال”. وفى الوقت ذاته، هى مأزق من المآزق التى تهرب منها “نيهال” معه، لأنها تُبرز أنانيته، وقدرته الحادة على الإنتقاد فى تيه وتكبر أعلى مما تمارسه هى معه. أأدركت حجم هذه المتاهة التعقيدية، التى تحكم شكل سير علاقات الكوخ المتطرف فى قلب الجليد. فكلهم يمتلكون عيوبا، “نيجلا” لا تملك سوى قدرتها على إلقاء اللوم فوق كاهل من حولها، و”نيهال” تقع فى شراك ما تعيب “إيدين” عليه، وتذهب مخصوص إلى بيت عائلة المستأجرين، لكى تضع فى أيديهم مال وفير، تُظهِر به وجهها الصبوح بدلا من وجه “إيدين” الشرير الذى يستحلب فقرهم وعجزهم. كل منهم له قناعه القبيح، وكل منهم ينغلق على منطقة فراغ مقيتة، ولكن مشكلتهم الأصلية هى ملائمة انكشاف منطقة فراغ كل منهما أمام وضع مواجه لمنطقة ممتلئة وصحيحة فى روح الآخر. فبدت إخفاقاتهم هى الأبرز لكل منهم، الكل منهم يرى فساد الآخر بدقة.الكل يتألم، والكل لا يعرف كيف ينجو من الورطة، والكل يضطر ينام نومة الشتاء التى لا مفر منها.
ملاحظات عن الصورة
القطع الوافى الذى حدث فى مشهد إغماءة الصبى (حينما أجبره عمه على تقبيل يد”إيدين” إعتذارا) نهاية بتعبير وجه “نيهال” المُحترق وهى تراقب الصبى يسقط على الأرض من فرط إعياء الذل، وإنتقالا إلى مشهد الفرسة الأبية التى تقاتل بعنف لنيل حريتها، لم يكن ليأتى تعبيرا أقوى منه قولا أو تصويرا.
تماما مثل الإنتقال من مشهد المواجهة بين “إيدين” و”نيهال” بإضاءته الدافئة، إلى مشهد يجلس فيه “إيدين” بمفرده فى غرفته، والأجواء من حوله باردة لونها شاحب أجوف، فى أول مرة تظهر فيها الغرفة بهذه الطريقة الموحشة.
حركة الكاميرا المتباطئة فى الدخول بقرب على قسمات “إيدين” وهو يقرأ خطاب معجبته، ويمط فى جمل مديحها له، وموازاتها بنفس الحركة على وجه “نيهال” واستيعاب ردة فعله حيال ما يحدث. كانت وسيلة موشية هى الأخرى، بأول علامات الصراع الداخلى الكائن بين “إيدين” و”نيهال”.
آخر كلمتين:
_ فيلم “winter sleep” هو أيضا يُمثل نموذج بارز لحالة تكثيف فريدة من نوعها، على الرغم من طول الوقت الذى استغرقته فى التوضيح أكثر من العادة، إلا أنها كثفت مشاعر يصعب الإلمام بها على هذا النحو فى صياغة سينمائية.
_نُشِر فى مجلة الثقافة الجديدة_ فى فيلم antichrist للمخرج "لارس فون ترير"، تبلغ البطلة الطور الكامل لنوبتها الإكتئابية، فيحل الوهم محل دماغها، ويوعز له بكل المُنكَرات، المُهلِكات، وفظائع الجُرم. تتحول تلك السيدة الرقيقة، واهنة الهيئة والقدرة إلى سفاحة متوحشة. يقودها الوهم إلى التمثيل بجسد من تحب، لتكن على يقين من أنه لن يُفارقها. تعتقد، وتمتطى إعتقادها إلى حتفها بنفس طيّعة. فما إن خَرِبَت رأسها، انتفت هويتها وضُلِلِ هواها. الوهم قتلها، وأمات الحب فيها وفيمن حولها. وفى حياة أخرى، موازية لحياة هذه البطلة المكتوبة فى سطور فيلم، شاهدتُ رجلا يحرص فى سيره، على أن يتحسس فى كل خطوة من خطاه الأرض من تحته. يومها، كنت برفقة زميل طبيب، وحينما رآنى وقد استغرقنى التحديق فى الرجل بإندهاش، أفادنى بأنها إحدى أشكال حالة مرضية عقلية، تعرف بإسم" catatonia "، يتهيأ فيها للمريض أنه قد يفقد الأرض، لذا فهو يطمئن دوما لوجودها من تحته بتملسها كلما يُحرك قدما. وهماً آخر يدفع الحالات المتأخرة من نفس المرض، لأن تدّب فى مشيتها، ليسعها التأكد من وجود الأرض تحتها. الوهم أقصر الطر...
_نٌشر فى مجلة أبيض وأسود_ فى فيلم dangerous method 2011 يتبادل البطلان مناقشة شديدة الإيجاز حول مفهوم السعادة. فيقول أولهم: "السرور ليس بسيطا أبدا كما تعرفه أنت". فيبادره الآخر: "بل إنه كذلك، إلى أن نقر نحن بتعقيده". فيلم أضواء المدينة عام 1972 إخراج فطين عبد الوهاب وتأليف على الزرقانى، من الأفلام التى تؤيد الشِق الأخير من المناقشة، من الأفلام التى تمنح السعادة خيارا حقيقيا تطِل من خلاله ببساطة، ومن دون تكلف، أو محاولة زائفة للتحذلق والفلسفة المُدّعية. إنه الفيلم الذى ما إن تُعيد مشاهدته، تبتسم من مجرد ظهور تتراته، تستحضر معها روحه الخفيفة الطافية، وخيالات تلك الضحكات الماضية التى سبق وأن أغدق عليك بها. تزورك لحظات البهجة التى خلقها خصيصا لك، وليس نظيرتها التى انخلقت فى مواقف مشابهة مع أفلام أخرى وفقا لظروف معينة، ملائمة لصناعة البهجة. أضواء المدينة هو الفيلم الذى يُضحكك ببساطة وإن ضحك عليك. سيناريو الحدوتة تبدو تقليدية، اعتدناها من السينما المصرية فى وقت سابق، ولاحق أيضا. ولكن ما ابتدعه السيناريو هنا، ابتكار مدخلا مختلفا آمنا، يسعه مجاراة دراما ...
_نُشر فى مجلة الثقافة الجديدة_ فى فيلم the skeleton key تظل البطلة تردد بهيستيرية " أنا لا أؤمن، أنا لا أؤمن، أنا لا أؤمن" ولكن صوت داخلها يجهر بنقيض ما تصرخ به تماما، إنها تؤمن بالفعل، تؤمن أن السيدة العجوز التى تمارس عليها إحدى تعاويذها، ستتمكن من أذيتها فى آخر الأمر. تؤمن بالسحر الأسود، الذى لا يمكن أن تطال يده أحدا إلا إن كان مؤمن بوجوده وأفاعيله. و"يحى حقى" فى رواية قنديل أم هاشم تطرق لمفهوم الإيمان، خاض فى جانب غير آمن منه، جانب يبعث على الحيرة، ويشير إلى وجه آخر من وجوهه الداعية إلى القلق. فـ "الإيمان" كلمة ما إن ذُكِرت فى أى تراث، يحضر معها شرطيا شعور الراحة والسلام. ولكن الحقيقة ليست مثالية إلى هذا الحد، فـ "الإيمان" أحيانا قد يكون نقمة، قد يكون كُفرا موازيا بما يجب أن نؤمن به. فبطلة the skeleton key فى واقع الأمر لم تؤمن بالسحر، بقدر ما فقدت إيمانها بالرب. ومن هذه النقطة سيبدأ كلامنا عن فيلم "قنديل أم هاشم".. الفيلم الذى أعد السيناريو له "صبرى موسى"، ليطل على شاشة السينما بكل هذه التعقيدات الفكرية ال...
تعليقات
إرسال تعليق