التخطي إلى المحتوى الرئيسي

الرجل الصامد والموسيقِيِ الذى لا ينوى التقاعد!


_نُشِر في الجزيرة الوثائقية_

(المقال الثالث من سلسلة مقالات ملهمون من دفتر السينما)  



دفتر السينما قدم عدد من الملهمين المتعَمِدين، المُتَقصِدين ممارسة هباتهم فى تحريك المياه الراكدة، الحريصين على كل ما يخلفونه ورائهم من ميراث مكتظ بالتمرد على قبح العالم، وقد سبق وأفنوا أنفسهم يوما فى مواجهة كل شرور وغرور البشرية، حينما قرروا أن يسلكوا الدروب الأكثر آدمية، حتى وإن لم يُتفق عليها، أو يُعتَرَف بها...

هؤلاء الذين أحكى عنهم، ملهمون، نحن نعرف عنهم، وهم أيضا يعرفون، لديهم الإدراك بكونهم كذلك، ليس تباهيا، وإنما يقينا فى صحة ما يدعون إليه وما يعتنقونه من صدق وتحريض على معرفة الحقيقة.

ولكن ثمة نوع آخر من الملهمين، وهم الذين لا يعرفون أنهم كذلك، لايتورطون مع أنفسهم، بقدر ما ينخرطون فى أعمالهم، ولا يفكرون بأثر ما يفعلونه على من حولهم سواء داخل محيط محدود فى توقيت حالى، أو خلال حيز آخر أكثر فضفاضية فى زمن قادم.

ومن دفتر السينما أيضا سنتحدث عن شخصيتين سنيمائتين من ذلك الطراز الأخير، طراز المُلهمِين المُتسغرقين فيما يقومون به، والذين وإن حسبوا أنفسهم مجرد مُنقذين، فهم رغما عنهم سيظلوا شخصيات ملهمة ومهمة.


"جيمس دونوفان".. الرجل الذى صمد

(شخصية واقعية)


فيلم "bridge of spies" عام 2015 للمخرج "ستيفن سبيلبيرج" قدم لنا خدمة جليلة، لأنه قام بتوثيق شخصية الأمريكى "جيمس دونوفان" سينيمائيا، هذا المحامى الذى لم يجد مفرا مما يمليه عليه ضميره، حينما لم يمانع الدفاع عن "آبيل إيفانوفيتش" المتهم بالتجسس على الولايات المتحدة الأمريكية لحساب الروس عام 1957 أثناء الحرب الباردة.

وبالرغم من كل هواجسه الأولى إزاء هذه القضية، نجده ينذر نفسه لها فيما بعد، غير آبها بكل النظرات الدونية التى يتهمه بها المجتمع الأمريكى بأكلمه كل يوم، وفى كل مكان، بينما لا يستمع إلا لصوت الحق فى داخله، يقول دوما " آبيل ليس مجرما، بل رجل شريف، قام بما طلبته بلاده منه على أكمل وجه، فعلام يُعَاقَب؟".

هذا اليقين، كم من الوقت والجهد الذى سنبذله للوصول إلى مثله فى مسألة كهذه، دعنا نفكر عزيزى القارىء، أنك فى مكان "دونوفان" هل ستبلغ سلامه النفسى تجاه فكرته بهذه السهولة، تتجاوز المفهوم الشائع تجاه الوطنية، وتجيد التمعن بحيادية فى ماهية الموضوع، مستندا إلى أدواتك المستقلة فى التفكير ووزن الأمور، ورؤيتها من منظور أحق وأجدر وأصدق.


"دونوفان" لم يرتدع حينما هاجمه الجميع، وبدأ المهوسون فى التعرض لأسرته، كان يلجأ للحلول التى لن تحيده عن مبدؤه، يشدد الحراسة على منزله، ويخفض عنيه بعيدا عن الآخرين فى عربة المترو التى يرتادها كل يوم إلى عمله، بينما يرمقه معظم الواقفين فيها بغِل ومقت.

"دونوفان" كان ذات حيلة، عقل متدبر، لابد وأن يأتى لمن يمتلك قلبا طيبا مثله، فنراه يكسب قضيته فى الدفاع عن "آبيل" بعدما يتنبأ للقاضى بأن هذا الجاسوس الروسى قد يكون مفيدا فى حالة وقوع أسرى من الجواسيس الخاصة بالأمريكان فى الأراضى الروسية، هذا السبب مُفرط فى منطقيته، وهو مناسب تماما لدماغ القاضى الذى كان مستعدا وبسرور لصعق "آبيل" على الكرسى الكهربائى، ولهذا أجَّل "دونوفان" السبب الحقيقى وقاله فى نهاية حديثه مع القاضى، وهو يعى تماما أنه لن يلفت انتباهه كثيرا، فنراه يؤكد على النقطة الإنسانية للمرة المليون، والتى تفيد بأن "آبيل" ليس مجرما، ولا يستحق الموت لمجرد أنه أدى مهمة وطنية لبلاده.


وبعدما أنقذ "آبيل" من الإعدام، حاول أن يحصل له على حريته التامة حينما قام بالطعن فى حكم سجنه لمدة 30 عام، والكل استراح حينما أخفق هذه المرة، وتشفوا فيه، فرحين بأنه لم يعد بعد الآن قادرا على جذب الأضواء بقضيته الملوثة هذه، اعتقادا منهم أنه كان يفعلها فى الأساس ليكون محط الأنظار حتى ولو بشكل يدينه، فهم لا يتخيلون مدى ما يحمله "دونوفان" فى قلبه من إيمان بحق "آبيل" وغيره فى العيش بحرية لأنهم لم يرتكبوا أية ذنب.

ولكن ماحدث فيما بعد، أكد للجميع معدن شخصية "دونوفان"، حينما صدقت نبوءته، ووقع الجندى الأمريكى "جارى باور" فى قبضة الروس، وألمحت الحكومة الروسية بأنها على استعداد لعملية تبادل أسرى. فنرى الحكومة الأمريكية، تعهد بهذه العملية لـ"دونوفان" بينما تجرده تماما من علاقته بها، وتخبره أنها لن تؤمنه بأى شكل كان، حتى وإن كانت عملية التبادل هذه ستتم فى ألمانيا الشرقية التى تعتبر أرضا مأهولة بالمخاطر فى ذلك الوقت. بالطبع، لن يقبل أحدهم أبدا هذه المخاطرة، ولكن "دونوفان" فعلها.

وحينما عرف بشكل عفوى عن وجود أسير أمريكى آخر، طالب فى مقتبل العمر يُدعى "فريدريش برايُر"، أصر على أن يتم التبادل ثنائيا، "جارى" و"براير" مقابل "آبيل". وعلى الرغم من استنكار الأمريكان محاولته التى قد تُذهِب فرصتهم فى عودة "باور" الجندى الأهم لديهم، والذى يحرصون على استرجاع المعلومات التى يحملها دماغه أكثر منه شخصيا، اتبع "دونوفان" غريزته كالعادة، وحَكّم رأيه أمام الروس، التبادل الثنائى لـ"باور" و"براير" مقابل "آبل" وإلا لن تكون ثمة صفقة من الأساس. وهذا سيذكرنا بذلك الاستهلال التلميحى الذى قَدم به "سبيلبيرج" شخصية "دونوفان" فى أول ظهور له، حيث ظل يُصَحح لمُحادِثه كلمة "رجُلَك" أى "موكلك"، فيقول "تقصد ذاك الرجل الذى وكله موكلى، هذا الرجل لا يجوز تسميته (رجلى)، لأنه ليس موّكلى". وكلما كان يعود الخصم أثناء حديثه مع "دونوفان"، غافلا، منفلت اللسان ليقول (رجُلَك)، نجد الأخير يقطتع المناقشة، ولا يكل أبدا من التنويه بعدم دقة هذا المصطلح. 


واجه "دونوفان" الساعات الشاقة الحاسمة، والتى ينتظر فيها رد الروس على ما اشترطه عليهم، بقلب واجف، شغله الشاغل مصلحة الأفراد الثلاثة "باور" و"برايُر" و"آبيل"، باعتبارهم آدميين مُجَردين أمامه من الهوية، لهم كل الحق فى عيش حياة كريمة، هذا والحكومات من حوله تلهث لكى تستعيد جنودها لكى تحمى مصالحها، تسعى لكى تستردهم وقد وصمتهم بالعار، "لماذا لم تقتلوا أنفسكم بدلا من أن تضعونا فى موقف كهذا أمام حكومة العدو، والله يعلم إن كنتم فتحتم أفواهكم بما تعرفونه أو لا".

الفارق بين "دونوفان" وغيره من الناس، أنه وبعد أن تمت الصفقة المبتغاه، والتى ستشرب أمريكا بأكملها نخبها بعد أن تتنفس الصعداء، يتلاشى الجميع من حوله وفى حوزتهم "باور" و"براير"، بينما يظل هو واقفا، يراقب بدأب وتوجس، كيف سيستقبلون الروس رجلهم "آبل"، مُتذكرا المحادثة التى دارت بينهم قبل قليل، حينما طرح السؤال على "آبيل" من جديد، حول موقف حكومته منه، فأجابه "لنرى كيف سيقومون بتحيتى، هل سأجلس فى المقعد الأمامى، أم سأُنسى فى الخلف". بقى "دونوفان" واقفا حتى بعد أن إنطفأت الإضاءة من حوله على جسر غلينك الذى تمت عليه الصفقة، وشاهد بعينيه "آبيل"، على الجانب الآخر من الجسر وقد أهملوه غريبا دون سلام فى المقعد الخلفى.

وقد وعى الأخوان "كوينز" والمخرج "سبيلبيرج" لطبيعة شخصيتهم، وأختاروا أن يؤكدوا على سمُوّها حتى فى مشهد النهاية، فـ "دونوفان" هو المرء الذى قد ينسحب من كل الاحتفاليات التى تقيمها الولايات المتحدة الأمريكية حول الواقعة، وحوله شخصيا، باعتباره بطل عملية التبادل، فنراه يدير وجهه عن نظرة الإمتنان التى تمنحها له سيدة فى عربة المترو، ليغمره الحزن فى لحظة حينما يرى مجموعة من الأطفال التى تعبر سورا صغيرا فى حديقة منزلهم، مستعيدا المنظر البشع الذى شاهد فيه مجموعة من الألمان يُقتَلون على الفور لأنهم حاولوا اجتياز الجدار ما بين الشرق والغرب. فهو كما قال لـ"باور" حينما نبذه الجميع فى الطائرة بينما كانوا فى طريقهم للعودة إلى أمريكا، "لا تهتم كثيرا بما يراه الناس، أو يظنوه حولك، المهم أن تهتم بما فعلته وما ستفعله".

فهو الرجل الذى ليس لديه خيار سوى مواصلة القتال، فثمة الكثير مما تبقى فعله لجعل هذا العالم أفضل، وليس ثمة مفرا من أن يكون دوما "رجلا صامدا" أو "استويكى موجيك" كما وصفه "آبيل" فى أحد المشاهد من قبل.


"بن"..الموسيقِي الذى لن يتقاعد أبدا


فى أحد الأيام قرر رجل سبعينى يُدعى "بن" أن يجلس أمام كاميرته الخاصة، ليقوم بتسجيل فيديو تقديم لمقابلة عمل لصالح شركة ملابس أون لاين، تستهدف كبار السن كمتدربين معاونين لطاقم عملها الأساسى.

واجه "بن" الكاميرا، وأخذ يردد ديالوج طويل، يصف فيه شكل حياته بعد تقاعده ووفاة زوجته، ومن ثم اختتمه قائلا:"سمعت أن الموسيقار لا يتقاعد إلا عندما تجف الموسيقى فى داخله، ولهذا لا تلائمنى حياة التقاعد، فثمة المزيد من الموسيقى فى داخلى، أنا على يقين من هذا".

كل الذى تحدث عنه "بن" فى الفيديو، تَمثَل فى محاولاته القضاء على الشعور بالخيبة وعدم الرضا، فهو قد قاتل بكل الطرق، سافر حول العالم، كان حريصا على التمشية كل يوم لدرء الركود عن جسده وروحه، لجأ إلى تعلم اللغة الصينية، ولكنه لم يبلغ درجة التشبع التى عندها فقط سيشعر أنه سعيد مجددا، وهنا يمكننا أن نفسر ذلك بأنه شخصية مقاتلة، لن يعجبها أبدا أن تُنحى جانبا بمعزل عن الفِعل الذى يمتد خارج دائرتها الشخصية.

هذه الصفة القتالية العتيدة، هى المُحدِد الرئيسى لشخصية هذا العجوز اليافع، والتى حرصت "نانسى مايرز" عام 2015 على كتابتها بأسلوب متسق ومهندم جدا فى فيلم "the intern".

عندما يُقبَل "بن" فى عمله كمتدرب، يعينوه تحت خدمة "جولز" المديرة الخاصة بالشركة، المهووسة بالإتقان والتفاصيل، لدرجة تدفعها لعدم الاعتماد على "بن" لأنها منذ البداية غير مؤمنة بتوظيف متدربين من كبار السن. ففى أول مقابلة لهما، تعرض عليه النقل للعمل فى قسم آخر، لكنه بكل ثقة لا يتخلى عن مهمته التى وُكِلت إليه معها، ويرفض عرضها ممتنا، واعدا إياها أنه يستطيع أن يوفى بكل تصوراتها، لكنها لم تصدقه، ونَحته بطريقتها الخاصة، فتجاهلت وجوده، ولم تعهد إليه بأية مهام، وعلى الرغم من ذلك، لم ينهار "بن" ويذهب إلى مكتبها ليستفسر بخصوص الأمر، بل عالجه هو الآخر بمنهجه الخاص، منج "المقاتل العتيد" إياه. فنراه يضع نفسه فى خدمة المكان من حوله بشكل عام، يغالى فى مساعدة الآخرين بكل شىء، ويراقب المهام التى يتخلى عنها الكل باعتبارها لا تخص أحد بعينه، فيقوم بها هو ببساطة وبدون انتظار لأى مقابل. 


بالتدريج، حاز "بن" على ثقة "جولز" فى أكثر من موقف، فهو الرجل الذكى الذى يواكب الأمور التى تتعدى خبرته العتيقة ببساطة، وعلى الرغم من هذا، نراه متمسكا بأدواته الخاصة التى اعتاد عليها أيضا، المنبه الصغير الذى يُذكره بالوقت، على الرغم من أنه يعمل على لابتوب آبل، حقيبته الجلدية الكلاسيكية الأنيقة والتى دفع الشباب ليبحثون عن مثلها ليبتاعونه متخلين عن حقائبهم الكاجوال، أقلامه الحبر الثمينة، وبذلته الرسمية التى نبهه أكثر من شخص أنها ليست ضرورية، لكنه كان جادا فى ارتدائها كل يوم لأنها تشبهه أكثر.

لم يسمح "بن" لتقاليد المكان أن تبتلعه، بل انفتح عليها بالقدر الذى يضيف إليه، لكنه كان صادقا بما فيه الكفاية، ليؤثر فى المكان بأكمله، ويجبره على الالتفات إليه، والتعلم منه، حتى وإن كان غير قاصدا ذلك، هو فقط أجاد التمسك بمبادئه وهويته، كان يحافظ بجدية على الأسرار التى يُصادف أن يعرفها عن الأحداث الهامة فى المكان، ولا يجارى الشباب من حوله فى حماقة اللغو بداعى وبدون داعى. نراه أيضا وفيًا لرئيسته، لا يغادر المكان إلا بعد مغادرتها، على الرغم من كونها فتاة مفرطة العمل وقد تجلس على مكتبها إلى منتصف الليل دون أن تتذكر وجبات طعامها حتى. وهو الرجل الذى حينما تثنى عليه مديرته، وتضع له مكتبا بجانب مُساعِدتها الخاصة التى اشتغلت معها سنوات طوال، نجده ينتهز الفرصة دوما لكى يلفت نظرها إلى تقدير خدمات هذه المُساعِدة التى طالما عملت على خدمتها بدون أن تحصل على قدر مناسب من التقدير.

لهذا، وفى فترة قصيرة، أصبح "بن" أبا للكل فى الشركة، ومُنقذا لـ"جولز" على وجه التحديد، هذه الفتاة المسكينة، التى لم تجد الهدوء الخاص بها، لأنها لم تعثر عن من تضع ثقتها به، ومن ثم، جاء "بن" الذى وجدته يعطى أكثر من روح يملكها لكى يقم بكل ما يفعله، أيا إن كان ماهيته، على أكمل وجه. فإذا بها لا تكتفى بالاعتماد عليه فى العمل وكفى، وإنما تميل إليه بشخصها كاملا، وتسمح له بإنقاذ حياتها الشخصية أيضا، والتى كادت أن تنهار، فيكن بمثابة جِدا طيبًا لإبنتها، ووالدًا حنونًا حكيمًا لها بل ولزوجها أيضا.


وفى النهاية، "بن" رجل ناضج ومحنك بما فيه الكفاية، لكى نجده آخر الفيلم فى ساحة اليوجا متخذا يومًا خاصًا لعطلته، وحينما تهرع "جولز" للبحث عنه هناك، لتخبره بشيئا مهما يخصها، يجبرها على ممارسة التمارين معه، ويوحى إليها فى توجيه صريح نبيه "تنفسى يا جولز، واتبعى الحركات من أجل سلامك وتوازنك الداخلى".

لذا ستستمع دوما إلى "بن" وهو يهمس لك دوما ..

"تنفس واهدأ من أجل سلامك وتوازنك، لكى تحتفظ بموسيقاك شجية دوما"

آخر كلمتين:

_ "توم هانكس" فى دور "جيمس دونوفان"، و"روبرت دى نيرو" فى دور "بن".

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

"goodnight mommy"..أن لا تُبصِر بينما ترى

_نُشِر فى مجلة الثقافة الجديدة_ فى فيلم antichrist للمخرج "لارس فون ترير"، تبلغ البطلة الطور الكامل لنوبتها الإكتئابية، فيحل الوهم محل دماغها، ويوعز له بكل المُنكَرات، المُهلِكات، وفظائع الجُرم. تتحول تلك السيدة الرقيقة، واهنة الهيئة والقدرة إلى سفاحة متوحشة. يقودها الوهم إلى التمثيل بجسد من تحب، لتكن على يقين من أنه لن يُفارقها. تعتقد، وتمتطى إعتقادها إلى حتفها بنفس طيّعة. فما إن خَرِبَت رأسها، انتفت هويتها وضُلِلِ هواها. الوهم قتلها، وأمات الحب فيها وفيمن حولها. وفى حياة أخرى، موازية لحياة هذه البطلة المكتوبة فى سطور فيلم، شاهدتُ رجلا يحرص فى سيره، على أن يتحسس فى كل خطوة من خطاه الأرض من تحته. يومها، كنت برفقة زميل طبيب، وحينما رآنى وقد استغرقنى التحديق فى الرجل بإندهاش، أفادنى بأنها   إحدى أشكال حالة مرضية عقلية، تعرف بإسم" catatonia "، يتهيأ فيها للمريض أنه قد يفقد الأرض، لذا فهو يطمئن دوما لوجودها من تحته بتملسها كلما يُحرك قدما. وهماً آخر يدفع الحالات المتأخرة من نفس المرض، لأن تدّب فى مشيتها، ليسعها التأكد من وجود الأرض تحتها. الوهم أقصر الطر...

أضواء المدينة..الفيلم الذى يُضحِكك وإن ضَحك عليك

_نٌشر فى مجلة أبيض وأسود_ فى فيلم dangerous method 2011 يتبادل البطلان مناقشة شديدة الإيجاز حول مفهوم السعادة. فيقول أولهم: "السرور ليس بسيطا أبدا كما تعرفه أنت". فيبادره الآخر: "بل إنه كذلك، إلى أن نقر نحن بتعقيده". فيلم أضواء المدينة عام 1972 إخراج فطين عبد الوهاب وتأليف على الزرقانى، من الأفلام التى تؤيد الشِق الأخير من المناقشة، من الأفلام التى تمنح السعادة خيارا حقيقيا تطِل من خلاله ببساطة، ومن دون تكلف، أو محاولة زائفة للتحذلق والفلسفة المُدّعية. إنه الفيلم الذى ما إن تُعيد مشاهدته، تبتسم من مجرد ظهور تتراته، تستحضر معها روحه الخفيفة الطافية، وخيالات تلك الضحكات الماضية التى سبق وأن أغدق عليك بها.  تزورك لحظات البهجة التى خلقها خصيصا لك، وليس نظيرتها التى انخلقت فى مواقف مشابهة مع أفلام أخرى وفقا لظروف معينة، ملائمة لصناعة البهجة. أضواء المدينة هو الفيلم الذى يُضحكك ببساطة وإن ضحك عليك. سيناريو الحدوتة تبدو تقليدية، اعتدناها من السينما المصرية فى وقت سابق، ولاحق أيضا. ولكن ما ابتدعه السيناريو هنا، ابتكار مدخلا مختلفا آمنا، يسعه مجاراة دراما ...

"قنديل أم هاشم" .. مفهوم غير آمن للإيمان

_نُشر فى مجلة الثقافة الجديدة_ فى فيلم the skeleton key تظل البطلة تردد بهيستيرية " أنا لا أؤمن، أنا لا أؤمن، أنا لا أؤمن" ولكن صوت داخلها يجهر بنقيض ما تصرخ به تماما، إنها تؤمن بالفعل، تؤمن أن السيدة العجوز التى تمارس عليها إحدى تعاويذها، ستتمكن من أذيتها فى آخر الأمر. تؤمن بالسحر الأسود، الذى لا يمكن أن تطال يده أحدا إلا إن كان مؤمن بوجوده وأفاعيله. و"يحى حقى" فى رواية قنديل أم هاشم تطرق لمفهوم الإيمان، خاض فى جانب غير آمن منه، جانب يبعث على الحيرة، ويشير إلى وجه آخر من وجوهه الداعية إلى القلق. فـ "الإيمان" كلمة ما إن ذُكِرت فى أى تراث، يحضر معها شرطيا شعور الراحة والسلام. ولكن الحقيقة ليست مثالية إلى هذا الحد، فـ "الإيمان" أحيانا قد يكون نقمة، قد يكون كُفرا موازيا بما يجب أن نؤمن به. فبطلة the skeleton key فى واقع الأمر لم تؤمن بالسحر، بقدر ما فقدت إيمانها بالرب. ومن هذه النقطة سيبدأ كلامنا عن فيلم "قنديل أم هاشم".. الفيلم الذى أعد السيناريو له "صبرى موسى"، ليطل على شاشة السينما بكل هذه التعقيدات الفكرية ال...