التخطي إلى المحتوى الرئيسي

Awakeings .. حينما تربح بينما تظن أنك خاسرا!

 _نشر في مجلة "عالم الكتاب"_



تقول "إليزابيث جيلبرت" :"يميل الناس إلى الإعتقاد بأن السعادة نوبة حظ، شىء يشبه الطقس الجيد سيحل عليك إن كنت محظوظا، لكن السعادة هى نتاج مجهودك الشخصى، عليك القتال من أجلها، الكفاح من أجلها، الإصرار عل الوصول إليها، وأحيانا السفر إلى أقصى بلاد الأرض بحثا عنها، عليك أن تنتمى لها دون هوادة"

وفيلم "awakenings" 1990 للمخرجة "بينى مارشال"، يحاكى هذان النموذجان من الاختيارات، خيار تعجيز المرء لنفسه، والتعثر المُتوَقَع نتيجة لعدم رفع العين إلى ما تحت القدم، والخيار النقيض، خيار القتال لآخر رمق فى صحة السعادة وطلبا لها. الفيلم مستوحى من قصة حقيقية نشرها الطبيب "أوليفر ساكس"، يحكى فيها عن تجربته الخاصة مع عدد من المصابين بداء غريب، يُشبه التهاب الدماغ ولكنه ليس هو بالضبط، المهم أنه يسحب منهم وعيهم، ويعمل على تخشيب عضلاتهم، ويضعهم فى حالة سبات عميقة لسنوات طويلة، لم يقدر أحد فيهم على القيام منها، على الرغم من أنه يظل حيا فى داخله، يراقب نفسه من مكان بعيد، يوما بعد الآخر وسنة بعد الأخرى، بينما تنسل منه حياته ويشيب صباه ويُطقطِق شعره بالأبيض. هؤلاء المرضى، بمعجزة ما قاموا من نومتهم فى صيف عام 1969، استيقظوا ليكتشفوا أنهم أصبحوا شيوخا، وأن الطفل الذى كانوه قبل أن يغادروا طوال كل هذه السنوات، لم يعد يمثلهم الآن، لكنهم لم يأبهوا بكل ذلك، فقط تشبثوا بكونهم موجودين حاليا، قدروا استيقاظتهم واعتبروها منحة، واختاروا أن يتشبثوا بسعادتهم دون بكاء على أى لبن مسكوب. ثم، وفى غمرة فرحتهم، أبت الدنيا أن تُتَمم عطاياها، واستردت ما وهبته لهم ببساطة، ليعودوا كما كانوا، أرواحا معلقة فى توابيت من الأجساد المتحجرة.

حينما قررت المخرجة "بينى مارشال" والسيناريست " ستيفن زيليان" تحويل كتاب دكتور "أوليفر ساكس" إلى فيلم، كان هدفهم الرئيسى الإجابة على سؤال " ما إذا كان هؤلاء المرضى قد خسروا معركتهم مع المرض، أم انتصروا فيها؟". ولأن الإجابة على سؤال ملتبس مثل هذا تستلزم التأنى، ولأن الروائى "ريتشارد ماسثيون" يزيد الأمر ربكة ويقول "أحيانا نظن أننا ربحنا ولكننا فى الحقيقة نخسر، وأحيانا أخرى نظن أننا خسرنا لكننا فى الحقيقة نربح"، سيتوجب علينا تناول الموضوع عن قرب بكل مناحيه الفنية والإنسانية والفكرية فى السطور القادمة.


فى البدء وقعت المعجزة


حينما صادفت حالات هؤلاء المرضى دكتور "ساكس"، اهتم لأمرهم بشدة وأخذ فى البحث وإجراء التجارب التى تسعى لفهم مشكلتهم المستعصية التشخيص، وتوصل إلى تشابه أعرضهم مع أعراض مرض "البرينكستون"، بل رأى احتمالا يشير إلى أنهم مجرد ضحايا لأعراض "البرينكستون" المتطورة، وبناءا على هذا وضع احتمالا لكون عقار الـ"إل_دوبا" وهو الدواء المستخدم لمعالجة مرض "البرنكستون"، هو ذاته العقار القادر على بعث مجموعة مرضاه المتصلبين، وبالفعل فى صيف عام 1969 أمد دكتور "ساكس" بعد معاناة مرضاه جميعا بهذا العقار، وحدثت المعجزة وقام جميعهم معافى منفتح الشهية على الحياة، ولكن لفترة وجيزة  ثم غادروا ثانية، وكأن شيئا لم يكن.

بعدها كتب "أوليفر ساكس" عن تجربته المؤلمة، التى حفزت السيناريست "زايليان" لتحويلها إلى فيلم، وحينما استقرت أدوار البطولة على كل من "روبين ويليامز" فى دور دكتور "ساير" والذى يمثل شخص دكتور "ساكس" فى الواقع، ثم على "روبرت دى نيرو" فى دور "لينارد" وهو الدور الذى اختلقه السيناريو، لأول مريض اختبر عليه دكتور "ساير" عقار الـ "ال_دوبا"، وبالطبع كان أول المرضى أيضا إنتكاسة وعودة إلى وضع التخشب.

"دى نيرو" و"ويليامز" كانا يداومان على الذهاب إلى المستشفى، لمتابعة الحالات بأنفسهم تحت إشراف دكتور "ساكس"، حتى يتسنى لهم محاكاة الواقع بصدق. 

وبعدها، رأى الفيلم النور فى عام 1990، وقد تم ترشيحه لثلاثة جوائز أوسكار، أفضل فيلم، وأفضل ممثل رئيسى "روبرت دى نيرو"، وأفضل سيناريو مقتبس "ستيفن زايليان".






السينما وهى تتحدث الواقع بحذق


"زايليان" كتب عن الواقعة سيناريو متماسك، وجيد بشكل ملفت، رسم فيه شخصية دكتور" ساير" بمواصفات معينة، تلائم إصراره على مشروعه الفائق الإنسانسية فى معاملة هؤلاء المرضى، فنجده الرجل العطوف، المرهف الحس، والعنيد، الذى يتبع حدسه الشعورى، مما يدفعه للعمل بشكل علمى لحل مشكلة هؤلاء الذين لم يكن ليلتفت أحد إليهم، بعدما اعتادوا عليهم غير مرئيين، يطعمونهم، ويحافظون على كونهم يتنفسون وكفى. ومع هذه المواصفات القتالية التى تمزج ما بين مؤهلات دكتور"ساير" على المستوى الطبى والإنسانى، والتى تحاكى الواقعة أكثر، اجتهد "زايليان" فى تخليق صفات أخرى للشخصية تخدم المعنى الأبعد الذى اختاره لحبكة الفيلم بأكلمها، فجعله وحيدا، منغلقا، يهيب الناس، ساذجا اجتماعيا لدرجة لا يقوى فيها على إسعاد نفسه، وإكتشاف العالم من حوله.

وفى ذات الوقت، رسم "زايليان" شخصية موازية، تتجسد فى شخصية مريض بعينه، اختاره "ساير" ليبدأ به تجربة العقار، حيث كان له السبق فى أن يفيق قبل الآخرين، ويختبر طعم العودة إلى الحياة بعد ثلاثين سنة، فنرى "لينارد/روبرت دى نيرو" وهو شغوفا، متحمسا، مشتعلا، يرغب فى استعمال حياته كمن لم يخشى فقدها، وهو الذى فقد بما فيه الكفاية منها، ففى مشهد، يتحدث فيه إلى "ساير" وهو منفعلا، ينهره فنشعر أنه ينهر فيه الناس جميعا على استهوانهم بالحياة، واستسهالهم نعتها بالسيئة، على الرغم من جمال أبسط الأشياء فيها.

شخصية "لينارد" كانت مرآه ذكية لشخصية "ساير"، رأينا فيها مدى المفارقة فى رفاهية امتلاك الحياة بسهولة، والتعامل معها بإجحاف ولامبالاة، فأحدهم يهرب من حياة يملكها بيسر وبساطة، والآخر يعافر لكى يحافظ ولو أيام يعى كيف يعيشها جيدا. ففى ديالوج جميل، تقول والدة "لينارد" وهى تدعم هذا المعنى الجميل الذى وضعه السيناريو أمام أعيننا، "عندما وُلد ابنى سليما، لم أسأل الله لماذا استحق هذه الحياة المثالية، وهذا الإبن المُعَافى، ولكن حينما مرض ابنى، ظللت أسأل لماذا، لماذا قد استحق مثل هذا البلاء العظيم".

يتأكد ذات السياق عند استفاقة باقى مجموعة المرضى، فنرى فيهم نفس الأريحية والتوق وكأنهم يتمنون لو كانت الحياة شخصا يستطيعون اعتصاره بين ضلوعهم، ولكن لأن "زايليان" سيناريست ذكى، قدم نموذجا واحدا من المرضى يغاير هذا التصور، فنراه حين يسأله الممرض "ماذا تشعر الآن"، يقطب ملامحه متهكما، غير مستسيغا للهجة الفرحة التى تلوح فى صوت الممرض، يقول وكأنه يعنفه "بماذا أشعر؟ ..أنا استيقظت بعد أعوام طويلة، لأجد زوجتى قد ماتت، وابنى اختفى، أما أنا فأصبحت عجوز كهل، ففى رأيك..بماذا سأشعر؟". بالتأكيد، هذا النموذج من البشر، هو الذى يخلق جحيمه بيده، لأنه لا يرى من الأوضاع إلا مدى سوئها، فأن تغمض عينيك أسهل وأكثر راحة من أن تبذل مجهودا لكى تفتحهما، وتفطن لحقيقة كل شىء تملكه، حتى وإن كنت ملما أيضا بكل شىء خسرته.

حيل غنية لجأ لها السيناريو ليزيد من ثراء مادته الدرامية، نراها فى أكثر من موضع أولهم كان الفوتومونتاج الذى قامت عليه التترات، والذى تعرفنا من خلاله سريعا على أول عَرَض أصاب "لينارد" وهو فتى فى المدرسة، حيث بدأت يديه فى الارتعاش ثم أخذت تخونه تماما، فتوقف عن أداء الواجبات مرغما، ثم انتهى به الحال فى المنزل دوما وقد اعتزل المدرسة، وانعزل عن بقية أصحابه وجيرانه. اكتفى "زايليان" بهذه التلميحة البسيطة فى مقدمة الفيلم، ولهذا عندما كانت والدة "لينارد" تخبر دكتور "ساير" كيف ساءت حالة ابنها من بعد خروجه من المدرسة على مدار تسعة سنوات، حتى انتهى به الأمر فى غيبوبته إياها، نشعر بها وهى تستكمل بطريقة ما هذه الصور المقتضبة التى شاهدناها فى البداية، والتى بدأنا نبنى عليها من حديث الأم الشفهى، الذى أصر "زايليان" ألا نعود لنرى وقائعه بشكل فعلى، ولكن حملنا على تخيله، فكان تأثيره أوقع بمراحل.



تكرر أمر هذا الإبتكار، حينما واتت دكتور "ساير" الفكرة فى احتمال عمل عقار الـ"ال_دوبا" على هذا المرض الغامض الذى يهاجم هؤلاء المعذبين، فنراه قبلها وهو يعزف على البيانو الخاص به فى محاولة للهدوء، ثم يتبدى لنا وقد غرق فى النوم، بينما تستمر أنغام الموسيقى التى كان يلعبها قبل ثوان فى الخلفية، ومن ثم فجأة يفتح عينيه وكأنه تنبه لشىء هام، بينما تتوقف الموسيقى وكأنها تفسح مجالا لهيبة الاحتمال الذى توصل له، والذى أنقذ أرواح مرضاه ولو لفترة وجيزة. 

وحينما كان "ساير" يحاول مساعدة "لينارد" فى تَهَجى اسمه على لوح الويجا، نرى الأخير يُحرك يديه صوب حروف أخرى، تشير إلى اسم شاعرة ألمانية، مُحدِدا من أشعارها قصيدة بعينها، فيقوم "ساير" بالقراءة منها، لنرى كيف أن كلمات القصيدة تجسد معاناة "لينارد"، المحبوس داخل جسده، "الذى يدور ويدور فى داخله من خلف القطبان" وفقا لقول القصيدة، فهذا النوع من التفاصيل شديد الثراء، لا يستسهل التعب على صياغة المواقف الدرامية والعناية بها، لتظل ساكنة إلى أمد غير معلوم فى روح المتفرج.

وعلى الرغم أن السيناريو تفانى فى العمل على الخطوط ووضع لها خطة تليق بحبكة الفيلم، إلا أنه كان حريصا للغاية على الإحساس الإضافى بكل خط، والعمل على زيادة تأثيره ومواقفه المنفصلة، فمثلا نجد علاقة "لينارد" ووالدته، ليست مجرد العلاقة التى لن ننتظر منها سوى المتوقع، ولكننا نعهد فى مرحلة فيها مشاعر أعمق، حينما بدأت الأام تغار من ابتعاد طفلها الثلاثينى لأول مرة عن حضنها، بعدما استفاق وبدأ يتصرف وفقا لرجولته. نرى هذا أيضا فيما يخص علاقة الإعجاب الخفية التى تكنها ممرضة دكتور "ساير" له، فنجدها فى لفتة بديعة تتستوقفه وهو يتحدث فى ندوة مهمة عن حالة "لينارد"، لتقوم بإعطائه ملاحظة مكتوبة لكى يهدأ ويقلل استخدام المصطلحات العلمية، وكأنها تعرف تماما ما يعتمل داخله. هذا إضافة للمشهد الحميمى الرائع، الذى كان يخبر فيه "لينارد" الفتاة التى تعجبه، أنه لن يقوى على لقائها ثانيا، بينما يرتج جسده متأرجحا يمينا ويسارا تحت وقع التشنجات اللاإرادية التى بدأت تنتابه، والتى اعتُبرَت نذير شؤم ينبأ بتراجع حالته، وأنه سيعود إلى غفوته قريبا، وفى منتصف هذه الأحاسيس السوداوية التى تغمر المشهد، ويزحف مَدّها ليُغرق قلب المتفرج بالحسرة، يضع "زايليان" لمسته الرقيقة المؤنسة، ويجعل الفتاة تحتفظ بيد "لينارد" بينما كان يصافحها مودعا، وتقم من جلستها، وتبدأ فى مراقصته وهى تضمه بحنان، فإذا بتشنجاته تهدأ شيئا فشيئا، ويستكين تماما وهو بين يديها حتى ولو بشكل مؤقت.

إن "زايليان" إلتزم برؤية بطله تجاه الحياة، فـ"لينارد" كان يرى أن سر السعادة يكمن فى الأشياء البسيطة، و"زايليان" لم يكتفى بجمال الخطوط الأساسية التى كتبها، وإنما أضاف إليها ومضاتها البسيطة التى ستبقى أكثر من الحدوتة ذاتها، فإننا لم نتذكر أننا أحببنا فلان يوما، على قدر ما نتذكر أنه تصرف معنا على هذا النحو فى هذا المكان الذى وطأناه سويا.



بعض حديث عن الصورة والأداء


فى أول مرة يخرج فيها "لينارد" إلى الشارع، نرى المخرجة "بينى مارشال" وقد استخدمت رمزية بصرية بسيطة، حينما التقط قدمي "لينارد" وهى تخطو على السلم بحركة ضعيفة، بينما يوازيها من الطرف الآخر، قدم طفلة تصعد فى الإتجاه المعاكس، فبخلاف أن المعنى واضح من حيث قصد تشبيه "لينارد" بالطفل الذى مازال يخطو ليكتشف الحياة، إلا أن اختيار "مارشال" كون "لينارد" يظهر وهو ينزل السلم، بينما تصعده الطفلة، كان موحى بأنهما غير متشابهان تماما، فـ"لينارد" سيتهاوى قريبا، بينما الطفلة ستستكمل طريقها.

يمكننا أن نلاحظ هذا التكوين الجميل الذى التقطته "مرشال" لمجموعة المرضى قبل تناولهم بعد تناولهم العقار بدقائق، والذى ظهروا فيه كالتماثيل المُلقاة بعشوائية، فى تفصيلة بصرية ذكية، تؤكد على حالتهم البائسة الحالية، مما يزيد من الإحساس الذى سيراود المتفرج بالفارق، حينما يستيقظ هؤلاء المرضى بعد ساعات.

"روبين ويليامز" كان مناسبا تماما لدور دكتور"ساير" سواء على الصعيد الخاص بإيمانه الإنسانى وطيبته، أو على مستوى تركيبته الجسمانية، ووجهه الرئق النقى.

أما "روبرت دى نيرو" فمن كان غيره ليلعب دور "لينارد"، هذه الإبتسامة الطفولية، والملامح البريئة الُمنهَكة فى ذات الوقت، هذا بخلاف الأداء الجسدى المذهل الذى قدمه فى مرحلة تراجع حالة "لينارد"، حيث بدت تشنجاته وردات فعله العصبية المستعصية طبيعية للغاية.


آخر كلمتين:

_ "ستيفن سبيلبيرج" كان بصدد إخراج ذلك الفيلم.

_ فى المشهد الذى كان يحاول "لينارد" تَعَدِى الحراس لكى يحقق رغبته المحروم منها فى التمشى وحده خارج المشفى، قد كُسرت أنف "روبرت دى نيرو" بشكل حقيقى أثناء الحركات العنيفة التى كان يتبادلها مع الحراس.

_ "بينى مرشال" كانت قد رشحت الكوميديان "بيل موراى" للعب دور "لينارد" الذى قام به "دى نيرو"، وعلى الرغم من أن "موراى" أبدى إهتماما بالدور، إلا أنها تراجعت لخشيتها من تَوقُع الجمهور بعض الكوميديا من الدور.

_ عقار الـ "ال_دوبا" الذى عالج به دكتور "ساير" مرضاه فى الفيلم، هو ذاته العقار الذى كان النجم "روبين ويليامز" يتعالج به فترة قبل وفاته فى أغسطس 2014.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

"goodnight mommy"..أن لا تُبصِر بينما ترى

_نُشِر فى مجلة الثقافة الجديدة_ فى فيلم antichrist للمخرج "لارس فون ترير"، تبلغ البطلة الطور الكامل لنوبتها الإكتئابية، فيحل الوهم محل دماغها، ويوعز له بكل المُنكَرات، المُهلِكات، وفظائع الجُرم. تتحول تلك السيدة الرقيقة، واهنة الهيئة والقدرة إلى سفاحة متوحشة. يقودها الوهم إلى التمثيل بجسد من تحب، لتكن على يقين من أنه لن يُفارقها. تعتقد، وتمتطى إعتقادها إلى حتفها بنفس طيّعة. فما إن خَرِبَت رأسها، انتفت هويتها وضُلِلِ هواها. الوهم قتلها، وأمات الحب فيها وفيمن حولها. وفى حياة أخرى، موازية لحياة هذه البطلة المكتوبة فى سطور فيلم، شاهدتُ رجلا يحرص فى سيره، على أن يتحسس فى كل خطوة من خطاه الأرض من تحته. يومها، كنت برفقة زميل طبيب، وحينما رآنى وقد استغرقنى التحديق فى الرجل بإندهاش، أفادنى بأنها   إحدى أشكال حالة مرضية عقلية، تعرف بإسم" catatonia "، يتهيأ فيها للمريض أنه قد يفقد الأرض، لذا فهو يطمئن دوما لوجودها من تحته بتملسها كلما يُحرك قدما. وهماً آخر يدفع الحالات المتأخرة من نفس المرض، لأن تدّب فى مشيتها، ليسعها التأكد من وجود الأرض تحتها. الوهم أقصر الطر...

أضواء المدينة..الفيلم الذى يُضحِكك وإن ضَحك عليك

_نٌشر فى مجلة أبيض وأسود_ فى فيلم dangerous method 2011 يتبادل البطلان مناقشة شديدة الإيجاز حول مفهوم السعادة. فيقول أولهم: "السرور ليس بسيطا أبدا كما تعرفه أنت". فيبادره الآخر: "بل إنه كذلك، إلى أن نقر نحن بتعقيده". فيلم أضواء المدينة عام 1972 إخراج فطين عبد الوهاب وتأليف على الزرقانى، من الأفلام التى تؤيد الشِق الأخير من المناقشة، من الأفلام التى تمنح السعادة خيارا حقيقيا تطِل من خلاله ببساطة، ومن دون تكلف، أو محاولة زائفة للتحذلق والفلسفة المُدّعية. إنه الفيلم الذى ما إن تُعيد مشاهدته، تبتسم من مجرد ظهور تتراته، تستحضر معها روحه الخفيفة الطافية، وخيالات تلك الضحكات الماضية التى سبق وأن أغدق عليك بها.  تزورك لحظات البهجة التى خلقها خصيصا لك، وليس نظيرتها التى انخلقت فى مواقف مشابهة مع أفلام أخرى وفقا لظروف معينة، ملائمة لصناعة البهجة. أضواء المدينة هو الفيلم الذى يُضحكك ببساطة وإن ضحك عليك. سيناريو الحدوتة تبدو تقليدية، اعتدناها من السينما المصرية فى وقت سابق، ولاحق أيضا. ولكن ما ابتدعه السيناريو هنا، ابتكار مدخلا مختلفا آمنا، يسعه مجاراة دراما ...

"قنديل أم هاشم" .. مفهوم غير آمن للإيمان

_نُشر فى مجلة الثقافة الجديدة_ فى فيلم the skeleton key تظل البطلة تردد بهيستيرية " أنا لا أؤمن، أنا لا أؤمن، أنا لا أؤمن" ولكن صوت داخلها يجهر بنقيض ما تصرخ به تماما، إنها تؤمن بالفعل، تؤمن أن السيدة العجوز التى تمارس عليها إحدى تعاويذها، ستتمكن من أذيتها فى آخر الأمر. تؤمن بالسحر الأسود، الذى لا يمكن أن تطال يده أحدا إلا إن كان مؤمن بوجوده وأفاعيله. و"يحى حقى" فى رواية قنديل أم هاشم تطرق لمفهوم الإيمان، خاض فى جانب غير آمن منه، جانب يبعث على الحيرة، ويشير إلى وجه آخر من وجوهه الداعية إلى القلق. فـ "الإيمان" كلمة ما إن ذُكِرت فى أى تراث، يحضر معها شرطيا شعور الراحة والسلام. ولكن الحقيقة ليست مثالية إلى هذا الحد، فـ "الإيمان" أحيانا قد يكون نقمة، قد يكون كُفرا موازيا بما يجب أن نؤمن به. فبطلة the skeleton key فى واقع الأمر لم تؤمن بالسحر، بقدر ما فقدت إيمانها بالرب. ومن هذه النقطة سيبدأ كلامنا عن فيلم "قنديل أم هاشم".. الفيلم الذى أعد السيناريو له "صبرى موسى"، ليطل على شاشة السينما بكل هذه التعقيدات الفكرية ال...