_تم نشره فى الجزيرة الوثائقية_
لابد مبدئيا أن أستعين بفقرة من كتاب فن الفرجة على الأفلام، للمؤلف "جوزيف.م بوجز". لأنها فى الحقيقة تُكمل تماما الانطباع الذى يمكننا أن نستخلصه بعد مشاهدة فيلم Macbeth 2015 للمخرج "جستين كورزيل" Justin Kurzel.
يقول "بروجز": " طبيعة الحدوتة الجيدة، المونتاج الممتاز، المؤثرات الصوتية القوية، الحوار الحي، والتمثيل الطازج. تستطيع أن تضفى قيمة عظيمة على الفيلم، ولكنها أبدا لن تُنقِذه للنهاية".
فيلم ماكبث الأخير، فيلم ملحمي على مستوى كل العناصر التى ذكرها بروجز، فهو من دون مبالغة حالة بصرية مُلهِمة للغاية. ولكن ثمة معضلة أخرى، حالت بينه وبين بلوغه القدر الآمن من الثناء، فإشكاليته التى أرّقت تقييمه كانت السيناريو، ولنا فى السطور القادمة حديث مستفيض.
سيناريو كسول متوجِس
اكتفى السيناريو بالبناء على أرض شكسبير العفية المُكثفة، واقتبس لغتها بلا أى اجتهاد. فافتقر إلى ملامح الحكى السينمائى الواضحة، وتاه فى مواضع كثيرة بين سطور شكسبير الشاعرية، غافلا عن الوقوف أمام بعض الشخصيات، والحوادث، والعمل باستقلال للضمِها فى بعضها لضما سينمائيا محبوكا، مهضوما، ومُبهرا أيضا.
الحوار اِنساب خلف سياق فضفاض من الكلاسيكية، التى بدت مبهمة فى بعض الأحيان. غافلة الفرق بين الحوار السينمائى والشِعرى. وكأن كاتب الحوار كان مأخوذا باللغة الشكسبيرية لدرجة جعلته يتناسى كونه يصنع فيلما. على الرغم من أن ثمة نسخا ماكبثية سينمائية قامت فى معظمها على التنظيم الشعرى الموجود بالنَص الأصلى، ولكنها عنيت جيدا بالعمل عليه لكى يبدو جليا غير منغلق على المتفرج العادى. ولم يشغلها هو بذاته، عن قِوَالة الحدث، والعيش بداخله، بدلا من سجنه فى قالب لٌغوى همه التجويد، لا يجتهد لاستثمار مشاعر الشخصية السينمائية، والتعبير عنها بمفردات مطبوخة جيدا مع نَص شكسبير.
شعور غريب كان يراودنى وأنا أشاهد فيلم "جستين كورزيل"، فقد لمست فى أكثر من موضع قلق المخرج من مقارنة نسخته، بنسخة ماكبث بولانسكى Roman Polanski 1971، باعتبار أنها النسخة السينمائية الأقرب لروح النص الشكسبيري إجمالا، من حيث الشكل والموضوع. فهى من النسخ التى استطاعت بجدارة أن تحقق المعادلة، ولم تمنح لناقديها منفذا لنقطة ضعف تؤخذ عليها، فبدت عظيمة بما فيه الكفاية. مشاهد بعينها برز فيها تخوف "كورزيل" أهمها مشهد تحرك غابة برنام الشهير فى نص شكسبير، والذى صوره بولانسكى بهيئة إن كان شكسبير ذاته رآها لأشار إلى أنها الأقرب إلى قلب نَصه. بينما نرى جستين يتجاهل الصورة التوصيفية الشهيرة بخصوص تحرك الغابة، ويتناولها من منظور واقعي أفقدها وقعها المُلهم والمفزع، على الرغم من عنايته البليغة بالصورة على مدار الفيلم، إلا أنه كان دوما ليميل للعمل على الشِق الجمالى المَهيب فيها أكثر من الرمزى الذى يخدم النَص. لذا فقد اختار فى مشهد الغابة وما بعده من مشاهد القتال، استخدام فلاتر حمراء اللون، تضيف لونا دمويا فوق الصورة، راسمة خيالات شاحبة للجنود فى الخلف، فبدت اللقطات لوحات فنية بديعة، أكثر من كونها مُعبرة عن مشاعر الترقب من لقاء ماكدوف وماكبث. فضلا عن التعجل الملحوظ، والهرولة التى بدا عليها السيناريو للوصول إلى تلك المشاهد الأخيرة، بدون خطة تمهيدية كافية، وبغير الاحتفاء الكافى للحظة مواجهة ماكدوف وماكبيث. وبالتالى تكررت أزمة السيناريو فى القفز فوق الحوادث، وتسخيرها لخدمة الصورة فى هذا الجزء على وجه الخصوص.
مشاهد أخرى يمكننا أن نشتم فيها رائحة التوجس من ماكبث بولانسكى، مثل مشهد قتل زوجة ماكدوف هى وأطفالها، فنجد كورزيل ينأى بمشهده عن أجواء قلعة ماكدوف تماما، وهى القلعة التى لم يخرج عنها بولانسكى حينما جسد واحدا من أكثر مشاهد السينما فجاعة. وبدءا من هذه الصورة الذهنية المترسبة فى ذهن كروزيل نفسه، جاءت فكرة بخسه من قدر طموحه لصنع مشهد يعبر بهذه القوة عن الحادثة التى كتبها شكسبير. فإذا به يصورها ببساطة بدت لامبالية أكثر من اللازم، لولا وجود "ماريون كوتيارد" الليدي ماكبث في المشهد، الذى نفخ فيه روحا من أدائها.
صورة تشكيلية
ما سَيُحسَب لنسخة "كورزيل" الماكبثية، هذه الحالة البصرية الزَخِمة التى حرص على أن يتبدى بها فيلمه. مُدققا فيها على كل العناصر المُكملة التى أخرجتها فى أبهى حُلَة من حيث الديكور، الإضاء، الأزياء، الألوان. كل شيئ كان متضافرا لخدمة الإيهام المرئى الفخم، والذى وإن لم ينقذ الفيلم للنهاية كما وصف "بروجز" إلا أنه منحه قيمة ستتميز بها هذه النسخة دون غيرها. وقد اخترت التطرق لبعض الكادرات والتكوينات، التى تفوقت فى الجمع بين التعبيرية الرمزية والجمالية، على العكس من المعنى الجمالى البحت الذى خيم على صورة الفيلم عموما.
فى معركة البداية، تظهر لقطات مشهد القتال بلون غامق منطفئ، على العكس من الكادرات التى تلتقط خيالات الساحرات الموجودات فى نفس ساحة الحرب. والتى تتلون دون غيرها بألوان ذهبية مشرقة، وكأنها فى عين شكسبير الملاذ الذى سوف يجيىء.
تنفيذ المشهد الذى قبعت فيه الليدى ماكبيث تزاول التقرب للآلهة، لكى يغدقوا عليها بسُكنَة الشر وغلظِة القلب. حيث الكادرات الفوقية التى أطلت عليها من أعلى فى لحظات احتدام مناجاتها، وكأن الآلهة بالفعل قد أذعنت لطلباتها. فضلا عما تبع ذلك من لقطات حادة القطع، مرتجفة ومتلهفة تقطع ما بينها وبين النقوش المقدسة على الحائط، ما يداخل أنفسنا بأن الليدى إمتلأت غِلا وحقدا إلى آخر رمق فيها بالفعل.
التكوين الموحى والموفق جدا، الذى هيأ لوقفة الليدى مع صاحباتها لاستقبال الملك دانكن، حيث وقفت كل منهن مصفوفات بإمعان، ومتشحات بالسواد، وكأنهن تمثيل حى لنذيرات شؤم مصنوعات من الحجر، يشى بما ينتظر الملك فى نفس الليلة من اغتيال وخيانة.
التكوين الشجى الآخر، والذى تجلس فيه الليدى بعدما فاق ضميرها، تنوح باكية مهلوسة بما يجيش فى صدرها. قعدتها تواجه الضوء، ونظرها مصوبا نحو اللاشىء، حجابها يتهدل من فوق رأسها، وكأن ما فيها من طُهر قد تيقظ مجددا، ووجها مضىء صبوح على الرغم من أساه ومعاناته. تتكئ فى راحة، وخَدر، وكأن جسدها تملص من طاقة التوتر والتكتيف التى كانت تحاصره فى المشهد السابق، حينما أتت لنفس المكان راغبة فى أن تفقد عذرية مشاعرها وإنسانيتها.
الموسيقى
فى بداية الفيلم، تطل علينا موسيقى "جيد كورزيل" Jed Kurzel. فتكن رسولا مُبشرا لما ستحمله لنا معها من محاكاة للصراعات الباطنية الممتدة فى رواية شيكسبير. فموسيقى "جيد كورزيل" كانت من العوامل الأولية التى دعمت هذه النسخة الماكبثية الأحدث.
مشاهد بعينها تألق فيها ثراء المقطوعات، ومسايرتها للأجواء الزمنية والدرامية. كمشهد دق أجراس النذير وقت موت الملك دنكن، بموسيقاه المُقبضة والمستدعية لطعم المِحَن القادمة، والتى ستمر بها جميع شخصيات الحكاية تقريبا.
المقطوعة الهادئة التى صاحبت مشهد اعتراف اللليدى، ودرؤها لكل شرورها قبل موتها، والذى لجأ فيه "جيد" إلى همس الكمان الموجع، والمُحفز للشجن.
وتلك التى برزت خلف مشاهد صراع ماكبث ما بين الانصياع لرغباته فى قتل دانكن والاستيلاء على الحكم، وبين نفسه الطيبة التى مازالت تراوغه، حيث مزج "جيد" بين تيمة موسيقية متوترة، وأخرى غاية فى الحزن مستخدما التشيللو خشن الصوت، والذى ينعى بنبرة مقعرة مُلفتة، وغائرة الأثر.
آخر كلمتين
_ "ماريون كوتيارد" تؤدى دورها دوما، لكى لا تُخلف فينا نفسا يَعِد وراءها همسة، هى فى سباق متفان دوما مع ذاتها، تبدو بكل مشهد تطل به مستعدة للإجهاز علينا، لا تمنحنا أبدا وقتا مستقطعا، هى لا تتجلى فى مشاهد ماستر بيس (ماستر سين) بعينها، وإنما تجعل كل إطلالتها على هذا النحو. أما عن "مايكل فاسبندر" Michael Fassbender فى دور ماكبث فقد أجاد ووفى، رماد عينيه وعجزهما المُبكر بعد فعلة ماكبث النكراء، لم تكن مستندة إلى ماكير جيد، وعلى الرغم فإن وجود فاسبندر إلى جوار كوتيارد، لم يؤهله فرصة ليتباهى بإشراقته كما ينبغى.
_ الشىء الجيد الوحيد الذى استحدثه السيناريو، وتعمد التركيز عليه كان العلاقة الجسدية بين الليدى وماكبيث، حيث أكد عليها الفيلم فى أكثر من موضع، وكأن إرادة ماكبيث تتهاوى رغما عنها، أمام جسد حبيبته، التى مثلت ورقة ضغط رابحة، وكسبت جولتها آنذاك.
تعليقات
إرسال تعليق