_نُشِر فى مجلة أبيض وأسود_
إحساس غريب يراودنى كلما رأيت فيلم الجسر،
حول معنى تلك السلاسة التى تصل لنا كمتفرجين حينما نشاهده. الإطمئنان الذى يغلف حواره،
شخصياته، مشاهده المسترسلة، وحبكته ككل. ثمة أفلام على الرغم من جودتها، تبث فى أنفسنا
شىء من الصراعات ومعادلات الشد والجذب التى مر بها صاحبها أثناء استولادها، بمعنى
يبعد عن الصورة الإيجابية الدارجة للتعبير الشهير(باين فيها المجهود)، وإنما هى
طاقة العناء التى وقفت فى وقت من الأوقات أمام عفوية العمل، وطريق خطته المستقيمة
لتضربها ببعض التعرج. فيلم "الجسر" من الأفلام القليلة التى يجوز
تشبيهها بليلة كاليالى التى وردت بالفيلم، يجلس فيها الأصدقاء لسماع أم كلثوم فى
رواق وهدأة، مما يخلق فرصة لتمييز صوت كل آلة على حدى، سماع نغماتها البعيدة
المتوارية خلف منظومة اللحن بأكمله. بغير فواصل، منغصات، أو فكرة مارقة تمس عذرية
المتعة حتى وإن لم تفُضها. إنها ليلة الراحة والدفء، وهذا ما يحمله لنا فيلم
"الجسر" فى طلته الأولى وحتى نهايته.
الفكرة
جِد تضطره الظروف لمعايشة حفيده المراهق
لفترة من الوقت، فيحاولان خلق جسر للتواصل فيما بينهما بعيدا عن معوقات فارق السن
وطريقة التفكير.
الفكرة تبدو مألوفة، ولكن صياغة الفيلم لها
غيرمسبوقة. فقد يدعى أى عمل فنى آخر تناول هذا الموضوع، ولكنه فى الحقيقة لم يتعرض
له ولو جزئيا. فكم من المرات ارتئينا فكرة التواصل بين جيلين مختلفين، مختزلة
بأكملها حول إختلاف الظروف العصرية، إمتعاض كل من الطرفين، ومحاولة الطرف الأكبر
سنا استقطاب من أمامه لعالمه. فى فيلم "ديسكو ديسكو" لإيناس الدغيدى_بغض
النظر عن جودته من عدمها_ بدا الشكل الأكثر استسهالا من التناول لهذا الموضوع،
بإظهار مدى غرابة الشباب فى سن المراهقة.
وبذات المنهاج جاءت اللهجة الوعظية العالية
فى مسلسل يوميات ونيس، تُنبأ عن نفس المغالاة فى تجسيد فِكر الطرف الأكبر سنا، وإبراز
ميله الدائم لمخاطبة أولاده _حتى وهم فى سن ناضج_ بنبرة من يصُب الحكمة فى رأس
فارغ. (والمصيبة) لم تتوقف عند هذا الحد، بل امتدت لتُصّدر مثالية هذه الطريقة
ونموذجيتها.
مفهوم التربية ذاته، قالب لم يجرؤ أحد على أن
يكسر جموديته ويتعاطى معه على هذا النحو المرن، الذى يدفع الكبير لكى يتحمل عبأ
الوصول إلى الصغير بكل هذه الإستماتة، يضع فوق رأسه زلاته وإخفاقاته قبل إغداقاته
وعطاءاته المجانية، التى يُعددها دوما الأب أو الأم للصغير ويطالبانه من خلالها
للإمتثال والإذعان.
السيناريو
عمل سناريو "إيناس بكر" بدأب على
خلق كافة الأجواء الحميمية التى تليق بالقصة، بداية من شكل الحياة الأول بين الأب
وابنته وولدها المراهق، روتين يومهم، والعلاقة التى تجمع ثلاثتهم، أو تجمع كل
منهما على حدى فى ظل وجود الآخر.
تفصيل دقيق، وحيوى، بُنى عليه جزء أساسى من سير
الأحداث المقبلة. فدقة رسم علاقة الصغير بأمه ورد فعل جِده "محمود مرسى"
عليها، خلق اشكالية صادقة فيما بعد، بعدما حل الجِد محل الأم وانتقل من وضع
المتفرج إلى صاحب الدور الرئيسى فى إدارة العلاقة (راقب السلاسة التى تفيض من
طريقة توجيه الحدث).
هذه النقلة التى غيرت من طباع الجِد، وجعلته فى البداية يتصرف
بوصاية على بوح حفيده له ببعض أشياء عن حياته الخاصة، التمزع بين كونه مسئولا
وصديقا، والذعر الذى دفعه ليضع مقام المسئول فوق الرفيق. وهنا ومن بعد تفاقم
النتائج المترتبة عن هذا التصرف، لابد أن نتفكر، هل عودة الجد إلى صوابه كانت مجرد
ردة فعل تحاول استيعاب هذا الشرخ الذى حدث؟. بالطبع لا، وهذا ما اجتهد السيناريو
فى إبرازه من خلال تفاصيل شخصية الجِد من البداية، فكثير من العلاقات الشبيهة
تصيبها مثل هذه الإنتكاسات، والتى تحتال حينما يعجز كل من الطرفين عن حلها إلى
واقع فعلى، يلتهم كل إحتمالات صحة هذه العلاقة فيما بعد.
ولكن الإختلاف الذى يكمن
فى علاقة تامر وجِده، يرجع فى أغلبه إلى وعى الجد، والذى عمل على إفاقته حينما
ضربته نوبة الذعر، وأوعزت له بإستخدام الطرق الأقرب للسيطرة والتوجيه، برغم كل
الضغط الذى يلاقيه من أصحابه المقربين، وتحريضاتهم الدائمة حول طبيعية هذه
الأساليب، وإعتبارها سبب من أسباب ضبط هذا السن المراهق والطريقة الوحيدة للتأثير
عليه. ففى حوار رائع، يقول صديق الجِد " أنا أمى مرة ظبطتتنى ببوس بنت
الجيران، وببوسها منين ..من خدها، راحت نازلة عليا بالقبقاب فضلت ماشى عِدل لحد
دلوقتى" فيرد عليه الجد" وانتوا بقى مش حاسين بالعقد اللى سابتها طريقة
التربية دى عليكوا". شخصية الجد، شخصية مقاتلة بمعنى الكلمة، قررت أن تخطو
عكس اتجاه الطريق المرصوف منذ عهد، تعاند سلبية كل من حولها، حتى تامر ذاته، والذى
كان أقرب منه إلى الإستسلام والهروب.
شخصية تامر هى الأخرى شخصية مختلفة، ففى
مشاهد المناقشات بينها وبين الجد، نجدها قوية الحُجة، قادرة على استشفاف الأمور،
لديها المزيد لتخلق من بينه منهجا وفكرا يستحق الإعجاب.ولكن عند التأمل فى مشاهده
مع الفتاة التى يجمعه معها قصة حب، نجده يخل بهذه الصورة القوية، ويعود طفلا
مراهقا إلى حد ما. فيأتى هذا ليخل بالمنظومة المحبوكة والمتكاملة التى صاغها
السيناريو، لشكل الشخصيات، وطريقة تعاملاتها.
التعرض بهذا التركيز المكثف لمشكلة وحدة الأم
الأرملة الصغيرة، فى مشاهد بديعة لم يتم اللحوء فيها إلى حوار _رغم أنها ليست من
أساسات عقدة السيناريو_ ما هى إلا وحدة بناء قوية للحالة التى رُسمت
لحياة الثلاثى معا فى البداية، مما أضفى عليها نوع من الحقيقية والصدق، إنه البيت
الذى يحوى ثلاثة كائنات بشرية، لكِل منهم همومه الخاصة وأفكاره الحميمة التى لا
يطلع عليها الآخر، مهما انتفت المسافة بينهما، فأتت مشاهد الأم "مادلين
طبر" وهى تعانى نوبات حنين إحساسها الأنثوى بوجود الرجل، صامتة مكتومة
ومنغلقة على طاقة قوية من المشاركة التى تشد من أزر الإطار العام بأكمله للحدوتة.
كذلك أتت حالة الصداقة التى تجمع بين الجد وذويه، على الرغم من فارق مستوى تعاطيهم
مع مشاكله وهمومه، بينما ظل نوع من الحميمية يطغى على الشاشة بمجرد طلة هذه
المجموعة من الأصدقاء، حميمية تذكرنا بوقائع بعينها من حياتنا، جلسات مماثلة،
مزاحات شبيهة.
هى ذاتها نفس السلاسة التى لا تدفع بك لأن تغفل عن أى مشهد، حتى ولو
كان على الهامش من الحدث الرئيسى، فتشعر أن لكل مشهد أهميته فى دعم الحالة
وإتمامها، ليس له الوجود العبثى الذى نشعر به فى أفلام أخرى، أو حتى مجرد الأثر المقبول
الذى لا يمس مسار الفيلم بالسلب.
من الجميل أيضا صياغة ردة فعل تامر على هذا
النحو حينما تتسع دائرة المشاكل بينه وبين جِده، حيث يرفض بنزعة كبرياء استمرار
حياتهما معا، بالرغم من قبوله العيش مع والدته قبلا، حتى مع منغصات عدم التواصل
القوية بينهما، والتى دلل عليها السيناريو فى البداية. وهذا هو الأقرب إلى المنطق،
فكلما زاد العشم والقرب كلما حل وقع الصدام مدويا ذو عواقب أفدح.
الصورة
قد تكون لقطة واحدة ولكنها غاية فى الرمزية
والجمال، ذلك الكادر الذى جمع بين تامر وجده، بعد عودته متأخرا من المدرسة بسبب
تعطل الباص، وعلى إثر الحادثة وقع خلافا بينه وبين جده، فوقف الإثنان متقابلان على
درج المنزل يفصل بينهما جدار يتصدر الكادر، فى توصيف مرئى، نابغ لحالة البُعد التى
أصابتهما. ودلالة قوية أيضا، لإتساعها فيما يلى هذا المشهد، حيث تصل النزاعات
بينهما لدرجة يطالب فيها تامر بالإقامة مع والدته فى الإمارات.
القطع المباشر أيضا فى بداية الفيلم، من
اللقطة التى كان يسترخى فيها الجِد على كرسيه الهزاز وحالة من السكون تحاوطه، إلى
تامر وهو يلعب على آلته الموسيقية الصاخبة، بالرغم من كونها تقليدية بعض الشىء،
إلا أنها رمت على الأقل إلى المُشاهد طرفا من أطراف عقدة الفيلم المقبلة.
آخر كلمتين
_ الموسيقى من دم الفيلم الحامية، كان لها
تأثيرا غائرا، يمنح المتفرج حالة الهدوء والتمهيد الذى يحتاجها ليجارى هذه
الإشكالية الإنسانية المُرهِقة التى عرضها الفيلم، بحالة شعورية طغت على التعقيد
الذهنى.
_حتى إختيار موقع التصوير بشقة فى مصر
الجديدة، دعم حالة الرواق والتأنى والخصوصية التى أطل بها الفيلم.
حلو جدا الكلام الي كتبتية عن الفيلم
ردحذف