التخطي إلى المحتوى الرئيسي

: Maleficent.. المشعوذة وفن صناعة الأسطورة

نُشر فى موقع مصر العربية
.................................................



إسراء إمام تكتب: Maleficent.. المشعوذة وفن صناعة الأسطورة

إسراء إمام تكتب: Maleficent.. المشعوذة وفن صناعة الأسطورة
Maleficent .. المشعوذة وفن صناعة الأسطورة
"ممثل" نعم هي ذاتها الكلمة التي استُهلكت هدرا في توصيف أناس تتوقف موهبتهم عند حد جودة الأداء، والحقيقة أنها إن لم تكن أوفر حظًا فهي أثقل قيمة من أن تقتصر معانيها عند هذا المفهوم الضئيل، فـ "الممثل" هو اختزال الكثير من الشروح والتفاسير، الخيالات واللامنطقيات، المشاعر والروحانيات، القرب والبعد فهو المسؤولة عن قانون المسافات بين المتفرج والعمل المُقدم إليه. "الممثل" مشعوذ في ماهيته الأولى، بينما اكتفى الآخرون بمنحه صفة القداسة، موصومًا بالترفع عن الدجل ليفعل على الأغلب كل ما هو متوقع منه، ولكنه وحده الممثل الحق، هو من يبث وهج السحر أينما أطل وكيفما تبدي.

و"أنجلينا جولي" أحد راهبات مملكة السحر، لحضورها يشتعل فتيل الفتنة، وتختلط الانطباعات، فحينما تريد لا يأتي من بعد رغبتها شىء، ولا تبذل هي أيضا الكثير لكي يتطوع المجال بأكمله لخدمتها، كما فعل الغراب الأسود في فيلمها الأخير " maleficent" هذا الفيلم الذي لن يصح إلا أن تكون هي جنيته، والذي قررت فيه أن تطلق عنان المشعوذة بداخلها، بعد أن احتبسها الوقت والحسابات والرهانات الخاسرة والإطلالات الأنثوية الزائفة في أفلام كانت.

"أنجلينا جولي" في maleficent هي "الممثل" العاري من خطاياه السابقة، والمتدثر بظلال خطواته الناجحة، فهي "ماليفسينت" المطمئنة.. القوية.. المدوية كأعمار حييناها من قبل فى سعادة، وسنحيا بها فيما بعد بنشوة تعاويذ تجابه واقع وقح.

Maleficent 2014

فى عام 2012 تم تقديم فيلمين، أعاد كل واحد منهم تقديم أسطورة "بياض الثلج"، الأول "snow white and the huntsman" اختار أن يقدمها في وجهها القبيح المُقبض، والآخر "mirror mirror" آثر أن يحاكيها بهزلية ساخرة، وعلى الرغم من جودة الفيلمين (كل منهما بنسبة متفاوتة)، إلا أنهما احتفظا بنزعة الشر التي ينغلق عليها صدر زوجة الأب، وبالتالي أبقيا على الملامح الأساسية للأسطورة حتى إن تطرفا في شكل صياغة معالجتها، وهذا ما يميز فيلم " maleficent" عنهما ويرتفع به إلى خانة أخرى، لأن هذا الفيلم اختار أن يصنع أسطورته الخاصة، حتى مع استناده على دعامات القصة الأصلية، والتي لم تكن له مجرد عكاز، بينما هي الرحم الذى استولد منه قلب حدوته، وشخصيته الأثيرة الآسرة "ماليفسنت".

"ماليفسنت" هو اسم الجنية التى ألقت بتعويذتها على أميرة ديزنى االشهيرة، التي تذهب في سبات طويل في انتظار منقذها من اللعنة المزعومة، والتي تقضي بنومها بعد أن تخز إصبعها بدبوس ماكينة الغزل، حتى تنال قبلة حب حقيقية. إذا في أسطورة ديزنى السابقة الأميرة هي منبع الإلهام، هي الأصل الذي يتمحور حوله الحدث بكل ما فيه حتى شر الساحرة صاحبة اللعنة. ولكن في فيلمنا الحالي، تبقى ماليفسنت وحدها سر اللغز، مفتاح البهجة والمتعة، والسبب الوجيه لإثارة الفضول والتوتر. "ماليفسنت" هنا هى الحدوتة بأكملها.

ماليفسنت

ماليفسنت هنا جنية تملك كل شىء إلا قلبها، تقع في غرام الأشخاص بسهولة لكنها لا تتخلى عنهم بنفس البساطة التي يجرحونها هم بها، سلمت ماليفسنت قلبها منذ الصغر إلى الإنسان الذي زار مملكتها، وبرغم خيانته عهدها مرة، اطمأنت إلى عودته، وسلمته هذه المرة ثقتها ليجتزها هو جناحين عفيين، يقدمهما باسمها إلى مَلِكه ليتسلم عنه الحكم. وعلى الرغم من هول الحادثة، ومن بين كل شرارات الغضب التي تجتاح الجنية الجريحة مسلوبة الجناحين، إلا أنها لا تلبث سوى أن تذعن لاستيقاظ قدرتها العظيمة على الحب بعدما تُلقى بتعويذة النوم الأبدي على صغيرة خائنها، فبدلا من أن تطاردها بأذاها غمرتها رعاية وحنّو. وباتت هي وحدها منقذها من شر اللعنة التي رهنتها بها عن غير قصد.

ماليفسنت شخصية خارجة عن رتابة التخمينات، وترهل المعهودات. شخصية لا يندرج حروف اسمها الأولى في قاموس المقروء. شخصية سخية وسعة الأفق، تمتلك من براح المتناقضات الكثير والمحسوسات الأكثر، هي جنية بالفعل ليس بالمفهوم الساذج المتعارف عليه، وإنما بتوصيف يُشبه خزانة أنيقة موصدة لا يسعك أن ترى جوفها، ولا تتنبأ بما في داخله بينما يمكنك أن تملك اليقين بفخامته وهيبته.

ولهذا "أنجلينا جولى" هى القادرة على منح ماليفسنت هذا المس الجنونى الحميم. فبعنينيها المتمهلتين وشت ولم تفصح، وَجعت ولم تجرَح، أخافت ولم تفزِع، حَنت ولم تتمادى ابتذالا. رفعت شعار الصمت، ومارست الدجل فى سكوت فبدت الجنية والمشعوذة التى لم يكن يحلم صناع الفيلم بمثلها.

فن صناعة الأسطورة

اهتم سيناريو maleficent بتهذيب عناصر حدوته، فصنعها أسطورة متألقة، أصيلة التفاصيل ممتدة الركائز، بداية من الشخصيات وحتى لفتات إدارة الحدث والإنتقال به من مستوى إلى آخر.

فمبدئيا اهتم برسم قسمات هامة لشخصية "ستيفان"، الملك الذي يخون ثقة ماليفسنت ويسلبها جناحيها رغبة في الحكم، فاهتم السيناريو منذ بداية ظهوره الأول وقت طفولته بوصمه بالسرقة من أرض الجان، بدون أن ينفي عنه صفة البراءة والطيبة التي ورطت ماليفسنت في حبه، والتى ليست بضرورة أن تكون مدعية ففى هذه السن يمكننا أن نملك أكثر من وجه، إلى حين يأتى بنا الوقت لنقرر من نكون بالضبط. ومن بعدها جاء قراره بالطبع لكى يبتعد عن جنيته فى سيبل القتال لحساب طموحاته، وحينما وُضِعت هذه المكاسب فى كفة واحدة مع حبيبته القديمة اختار مصالحه لا مفر. نمنمات دقيقة أخرى، إهتم أن يؤكد عليها السيناريو بطريقة متبطنة تُكمل باقى صورة "ستيفان"، فنراه فى تحديه مع ماليفسنت قد وصل لمنطقة متطرفة من الحقد لنفسه، وليس لإبنته الملعونة، ففى مشهد تأتيه فيه الفتاة يبدو قد تناساها غير آبها بها، فغايته هى معركته مع الجنية التى مررت سنوات حُكمه وأضاعت هيبته، تماما مثلما كانت رؤيته لزوجته المريضة( التى يتقاول الأطباء بموتها  قريبا) لا قيمة لها أمام مناقشته المزعومة لماليفسنت. السيناريو هنا يُدلل بإشارات ذكية إلى أن "ستيفان" شخص أنانى لا يقوى إلا على حب نفسه.

على نفس المنوال المحنك، بدا الحدث مدجج بالتفاصيل التى وصلت به لأوج الاحتدام فى النهاية، بداية من خدش فكرة "الحب الحقيقى" داخل نفس ماليفسنت، وكأنها حطب معطوب احترق به قلبها، وبقى رمادا لا تُذهِبه رياح الوقت، فتستحضره سريعًا وهى تُعدّل لعنة الفتاة، وتبقيه شرط قيامها من نومها الأبدي، وهى تعرف فى قرارتها أنه ليس ثمة وجود لما يسمى "الحب الحقيقى" قبلما تعرف أن حظها العثر فقط هو الذى أوقعها فى إنسان بلا قلب. ولم تتوقف فعالية الفكرة عند هذا الحد، وإنما تم توظيفها بغاية العذوبة لتُقوى من وقع علاقة ماليفسنت وأورورا (إبنة ستيفان الملعونة)، فتكون ماليفسنت هى مُنقذ أورورا لأنها وحدها من تكن لها عاطفة حب حقيقى، فتوقظها من نومها بعدما تُقبلها من جبينها وقد أدانت للصغيرة قبلا بإفاقة قلبها من حمى الغدر، وبعثه للتماثل من شفاء الحقد والغل، ونفض ذرات الكراهية المزعومة والشر المصطنع.

التقنية فى maleficent كانت خادما طيعا لبراعة نسج الموقف، وتصوير احتقانه كفكرة ألمعية على الورق قبل أن تكون صورة، ففى مشاهد مثل إلقاء اللعنة فى إحتفال القصر، أو هرولة ماليفسنت لإنقاذ الفتاة من مصيرها المحتوم، نرى عبقرية تصعيد الحدث وهى تستخدم التقنية فى صالحها، فتبدو فى بالغ رصانتها ونفاذيتها، تخلب الألباب وتنشب براثنها فى المخيلة والنفسية قبل أن تُذهل العين وتبهرها.

آخر كلمتين

_ ماليفسنت من الأفلام القليلة جدا التى تم إنتاجها مؤخرا لتُعرض فى سينما الأيماكس بتنقية الثرى دى، وفى الوقت ذاته تحتكم فى جيوب مادتها الفيلمية على قدر غير مسبوق من العذوبة والإنسانية ولهجة فضفاضة للحلم.

اقرأ أيضًا:

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

"goodnight mommy"..أن لا تُبصِر بينما ترى

_نُشِر فى مجلة الثقافة الجديدة_ فى فيلم antichrist للمخرج "لارس فون ترير"، تبلغ البطلة الطور الكامل لنوبتها الإكتئابية، فيحل الوهم محل دماغها، ويوعز له بكل المُنكَرات، المُهلِكات، وفظائع الجُرم. تتحول تلك السيدة الرقيقة، واهنة الهيئة والقدرة إلى سفاحة متوحشة. يقودها الوهم إلى التمثيل بجسد من تحب، لتكن على يقين من أنه لن يُفارقها. تعتقد، وتمتطى إعتقادها إلى حتفها بنفس طيّعة. فما إن خَرِبَت رأسها، انتفت هويتها وضُلِلِ هواها. الوهم قتلها، وأمات الحب فيها وفيمن حولها. وفى حياة أخرى، موازية لحياة هذه البطلة المكتوبة فى سطور فيلم، شاهدتُ رجلا يحرص فى سيره، على أن يتحسس فى كل خطوة من خطاه الأرض من تحته. يومها، كنت برفقة زميل طبيب، وحينما رآنى وقد استغرقنى التحديق فى الرجل بإندهاش، أفادنى بأنها   إحدى أشكال حالة مرضية عقلية، تعرف بإسم" catatonia "، يتهيأ فيها للمريض أنه قد يفقد الأرض، لذا فهو يطمئن دوما لوجودها من تحته بتملسها كلما يُحرك قدما. وهماً آخر يدفع الحالات المتأخرة من نفس المرض، لأن تدّب فى مشيتها، ليسعها التأكد من وجود الأرض تحتها. الوهم أقصر الطر...

أضواء المدينة..الفيلم الذى يُضحِكك وإن ضَحك عليك

_نٌشر فى مجلة أبيض وأسود_ فى فيلم dangerous method 2011 يتبادل البطلان مناقشة شديدة الإيجاز حول مفهوم السعادة. فيقول أولهم: "السرور ليس بسيطا أبدا كما تعرفه أنت". فيبادره الآخر: "بل إنه كذلك، إلى أن نقر نحن بتعقيده". فيلم أضواء المدينة عام 1972 إخراج فطين عبد الوهاب وتأليف على الزرقانى، من الأفلام التى تؤيد الشِق الأخير من المناقشة، من الأفلام التى تمنح السعادة خيارا حقيقيا تطِل من خلاله ببساطة، ومن دون تكلف، أو محاولة زائفة للتحذلق والفلسفة المُدّعية. إنه الفيلم الذى ما إن تُعيد مشاهدته، تبتسم من مجرد ظهور تتراته، تستحضر معها روحه الخفيفة الطافية، وخيالات تلك الضحكات الماضية التى سبق وأن أغدق عليك بها.  تزورك لحظات البهجة التى خلقها خصيصا لك، وليس نظيرتها التى انخلقت فى مواقف مشابهة مع أفلام أخرى وفقا لظروف معينة، ملائمة لصناعة البهجة. أضواء المدينة هو الفيلم الذى يُضحكك ببساطة وإن ضحك عليك. سيناريو الحدوتة تبدو تقليدية، اعتدناها من السينما المصرية فى وقت سابق، ولاحق أيضا. ولكن ما ابتدعه السيناريو هنا، ابتكار مدخلا مختلفا آمنا، يسعه مجاراة دراما ...

"قنديل أم هاشم" .. مفهوم غير آمن للإيمان

_نُشر فى مجلة الثقافة الجديدة_ فى فيلم the skeleton key تظل البطلة تردد بهيستيرية " أنا لا أؤمن، أنا لا أؤمن، أنا لا أؤمن" ولكن صوت داخلها يجهر بنقيض ما تصرخ به تماما، إنها تؤمن بالفعل، تؤمن أن السيدة العجوز التى تمارس عليها إحدى تعاويذها، ستتمكن من أذيتها فى آخر الأمر. تؤمن بالسحر الأسود، الذى لا يمكن أن تطال يده أحدا إلا إن كان مؤمن بوجوده وأفاعيله. و"يحى حقى" فى رواية قنديل أم هاشم تطرق لمفهوم الإيمان، خاض فى جانب غير آمن منه، جانب يبعث على الحيرة، ويشير إلى وجه آخر من وجوهه الداعية إلى القلق. فـ "الإيمان" كلمة ما إن ذُكِرت فى أى تراث، يحضر معها شرطيا شعور الراحة والسلام. ولكن الحقيقة ليست مثالية إلى هذا الحد، فـ "الإيمان" أحيانا قد يكون نقمة، قد يكون كُفرا موازيا بما يجب أن نؤمن به. فبطلة the skeleton key فى واقع الأمر لم تؤمن بالسحر، بقدر ما فقدت إيمانها بالرب. ومن هذه النقطة سيبدأ كلامنا عن فيلم "قنديل أم هاشم".. الفيلم الذى أعد السيناريو له "صبرى موسى"، ليطل على شاشة السينما بكل هذه التعقيدات الفكرية ال...